لم تنفع خمسة لقاءات عقدها رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري مع الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق، في أن يتموضع في المكان السياسي الجديد، ويخرج من زمن الوصاية الأميركية على لبنان التي بدأت مع اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، وتكرّست في ما سمي “ثورة الأرز” في 14 آذار من العام نفسه.
فالوريث السياسي لآل الحريري بعد اغتيال والده، يشبه الوريث السياسي لآل الجميل الرئيس الأسبق للجمهورية أمين الجميل الذي ورث شقيقه بشير بعد اغتياله، الذي ذهب إلى عداوة مع سوريا، إلى حد أنه هدّد من أمام البيت الأبيض بقصفها، وأنه سيطال من رئيسها حافظ الأسد، ولم يمض عامان على تهديداته، حتى كان في حضن سوريا يزورها نادماً على ما قاله بحقها، والتقى رئيسها الذي فتح له أبواب قصر المهاجرين، وأعطاه فرصة للخروج من العصر الإسرائيلي إلى ارتباط لبنان بعروبته، والى تعزيز الوحدة الوطنية، فتشكلت حكومة برئاسة الرئيس الراحل رشيد كرامة، بعد مؤتمري لوزان، وجنيف وإسقاط اتفاق “17 أيار”، وإعادة التوازن الداخلي بين القوى السياسية، إلا أن الجميل كان يناور ويماطل في موضوع تحقيق الإصلاحات السياسية للنظام، وكان يعطي وعوداً للرئيس الأسد ولا يلتزم بها، مما دفع بالقيادة السورية إلى دعوة “أمراء الحرب” وهم نبيه بري ووليد جنبلاط وإيلي حبيقة، وكان الأخير قد كشف ألاعيب الجميل، ومن موقعه كرئيس لجهاز الأمن في “القوات اللبنانية” قاد انقلاباً داخلها وأمسك بقرارها وسيطر بالسلاح على الأرض فيما كان يسمى “المناطق الشرقية” زمن الحرب الأهلية، وذهب مباشرة إلى دمشق والتقى مسؤولين فيها، وأبلغهم أنه قرّر إخراج قواته من العلاقة مع إسرائيل، والتوجه عربياً عبر بوابة سوريا، وهذا يتيح إنتاج اتفاق ينهي الحرب، كانت القيادة السورية تعمل وتحضّر له، فألزمت حليفيها “الحزب التقدمي الاشتراكي” وحركة “أمل” التفاوض مع “القوات اللبنانية” وانتهوا إلى اتفاق ثلاثي رسم خارطة طريق للخروج من الحرب وتحقيق إصلاحات سياسية، لكن الجميل حرّض على الاتفاق وأسقطه مع سمير جعجع، الذي وضع يده على “القوات اللبنانية”” وترأسها وخرج حبيقة من المنطقة الشرقية ملتزماً الخيار العربي والتحالف مع سوريا والقوى الوطنية.
الإنقلاب الذي نفّذه الجميل على الاتفاق الثلاثي الذي أصبح اتفاق الطائف بعد خمس سنوات، ترك الرئيس الأسد يتعامل معه، بحذر وعدم ثقة، وكان في كل مرة يستقبله، يندم على ذلك، لأن الرئيس اللبناني عندما كان يخرج من بوابة القصر الجمهوري في سوريا كان يرمي وراءه كل وعوده وتعهداته للرئيس السوري، مما كان يوتر العلاقات، وتدور معارك عسكرية حتى أنه تواطأ لعدم حصول انتخابات رئاسة الجمهورية في العام 1988، من أجل التمديد أو التجديد له، بعد أن أوحى أنه يقبل بتحقيق إصلاحات للنظام السياسي، بما سمي آنذاك ورقة السفيرة الأميركية ابريل غالسبي، ولكن محاولاته باءت بالفشل وخرج من قصر بعبدا مخلفاً وراءه فراغاً في رئاسة الجمهورية ملأته حكومة عسكرية برئاسة قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون مرفوضة من القوى الوطنية والهيئات والمراجع الإسلامية، فانقسم البلد إلى دولتين وحكومتين واحدة برئاسة عون وأخرى برئاسة سليم الحص، وحرب أهلية مدمرة، إلى أن أوقفها اتفاق الطائف الذي تمرد عليه عون وتحصّن في قصر بعبدا، الذي خرج منه بالقوة العسكرية واستعادته الشرعية برئاسة الياس الهراوي، وحكومة برئاسة سليم الحص.
ما فعله أمين الجميل مع سوريا حافظ الأسد، يحاول تكراره سعد الحريري مع سوريا بشار الأسد، مع اختلاف في الظروف السياسية، لكن هناك تشابهاً في الشكل والمضمون، إذ ذهب رئيس حكومة الوحدة الوطنية إلى دمشق وهذا كان شرطها لاستقبال الرئيس السوري له، الذي تصالح مع الحريري، استكمالاً لمصالحته مع العاهل السعودي الملك عبد الله، لأن الصراع في لبنان، له أبعاده الداخلية المرتبطة بمحاور خارجية عربية وإقليمية ودولية، وقد ظهر ذلك جلياً، في أن فريقاً لبنانياً انتهج المقاومة ضد إسرائيل وتحالف مع سوريا وله صداقة مع إيران، كان يواجه فريقاً أوصلته أميركا الى السلطة ضمن مشروع رئيسها جورج بوش للشرق الأوسط، ويلقى احتضاناً غربياً ودعماً من الدول العربية المسماة بالاعتدال وعلى رأسها السعودية ومعها مصر والأردن ودول أخرى.
فالثقة التي أعطاها الرئيس السوري لرئيس حكومة لبنان، والعلاقة الحميمة التي بدأ يقيمها معه لتعزيز الاحترام والمودة، لم يقابلها الحريري إلا بأنها تأييد له فقط، وكأنه ظن أن سوريا بحاجة إليه بعد الاتهامات التي وجهت إليها أنها وراء اغتيال والده، وهو ذهب إليها لتبرئتها وهذا ما رفضه الرئيس الأسد الذي تعاونت بلاده مع لجان التحقيق الدولية للكشف عن الحقيقة، ولم يصدر أي اتهام ضد أي مواطن سوري، الذي كان الرئيس الأسد أعلن أنه سيحاكم كل من تثبت إدانته في الجريمة.
أراد الرئيس الأسد من استقباله الحريري، أن يفتح صفحة جديدة، وأن يطوي الماضي، ولكن مع محاسبة من أساء إلى العلاقة اللبنانية-السورية، وأقام مناخاً من العداء بين أبناء الشعب الواحد في الدولتين، لا بل تسبّب بقتل عشرات المواطنين السوريين في لبنان، وأقفلت الحدود بين البلدين، وذهبت بعض الأطراف السياسية إلى التحريض على الحكم في سوريا، بدعم المعارضة لنظامها، ودعوة أميركا إلى احتلالها كما فعلت في العراق وإسقاط رئيسها بشار الأسد.
ووعد الحريري أن يسقط كل مرحلة الاتهام لسوريا سياسياً وأمنياً وشعبياً، وأن لا يسير في تحقيق مسيّس أثبته شهود زور تمت فبركتهم للنيل منها ومن حلفائها في لبنان، ولكن وعده لم يكن صادقاً بل تمهل في إعلان موقف من هذا الموضوع، ولم يتحرك باتجاه القضاء اللبناني من أجل ملاحقة هؤلاء، حيث وصلته أصداء عن استياء سوري من أدائه، ومن عدم تنفيذ لوعوده، لا بل قلقت القيادة السورية، من أن الحريري بات مقتنعاً إن عناصر من “حزب الله” متورطون في اغتيال والده، وقد فاتح الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله في هذا الموضوع، وقال له إنه لن يقول أن الحزب متورط، بل عناصر غير منضبطة منه، قامت بالجريمة لكن السيد نصر الله رفض الاتهام من أساسه، واعتبره مفبرك ومسيّس، وقد تم تسريبه عبر وسائل إعلام معروفة الاتجاه السياسي، كما لا يقبل أن يستمر العمل بمحكمة دولية مسيّسة.
كان هذا اللقاء بين الحريري ونصر الله، كافياً لتتوجس سوريا، من أن الاتهام الذي كان لسنوات أربع ضدها، سيتحول إلى “حزب الله” من ضمن مخطط أميركي–إسرائيلي، له هدف واحد، وهو القضاء على المقاومة ومحاصرة سوريا كما جاء في قرار مجلس الأمن الدولي 1559، وأن الاغتيال كان لتنفيذ هذا القرار الذي تم استصداره لإشعال فتنة في لبنان، وهو ما بدأ يظهر من خلال توجيه الاتهام نحو “حزب الله” الذي قام بحملة إعلامية وسياسية مضادة لإسقاط قرار ظني قيل إنه كُتب منذ سنوات موجهاً الاتهام لعناصر من الحزب، تم اكتشاف ضلوعهم في الاغتيال من خلال اتصالاتهم الهاتفية في مكان الجريمة وأماكن أخرى في العام 2006.
فتحويل الاتهام من سوريا إلى “حزب الله” أوقع الحريري في مأزق، ولم يتقدم باتجاه تبرئة الحزب، وكل ما فعله أنه أعلن في حديث لجريدة “الشرق الأوسط” أن شهود الزور الذين طالب “حزب الله” بمحاسبتهم كما أعلن قبل أكثر من عام ومازال اللواء جميل السيد، هم الذين ضللوا التحقيق وأسأوا إلى العلاقة اللبنانية-السورية، كما إلى آل الحريري وإليه شخصياً، وقد انتظر اللبنانيون أن يقرن أقواله بالأفعال، لكنه لم يفعل، بل كل ما أقدم عليه وتحت إصرار قوى المعارضة السابقة على كشف مفبركي شهود الزور، أن مجلس الوزراء اتخذ قراراً بأن يعد وزير العدل تقريراً حول هذا الموضوع، وكان المطلوب أن يتحرك القضاء مباشرة للاستماع إلى شهود الزور وبعضهم معتقل في لبنان مثل أكرم شكيب مراد وإبراهيم ميشال جرجورة وأحمد مرعي، ومعرفة من حرّكهم، إلا أن الحريري تجاهل الموضوع وهو الذي اعترف أنه متضرر منه، لأنه يعرف أن شهود الزور سيسمون أشخاصاً في مواقع السلطة السياسية والأمنية والقضائية والإعلامية، وأغلبهم من فريقه السياسي، وأن كشفهم قضائياً، سيؤدي إلى سقوط المنظومة السياسية والأمنية والقضائية، وهو سيكون محرجاً أمام تياره وجمهوره خصوصاً واللبنانيين عموماً، مما تركه يماطل ويكسب الوقت، عله يحصل تطور ما يخفي هذا الملف، أو يصدر القرار الظني بحق “حزب الله” فيضيع الموضوع، وفي الوقت نفسه كان يرسل إلى سوريا عبارات الإشادة والمجاملة، وأنه على استعداد لأفضل العلاقات بين لبنان وسوريا، وهو يعتبر الرئيس الأسد صديقاً شخصياً له، لكن الرئيس السوري الذي أراد للعلاقة أن تتوطد، فصل بين الشخصي والسياسي، إذ هو يريد من الحريري تغييراً في السلوك السياسي، لجهة التموضع في الموقع الذي فيه المقاومة التي تدعهما سوريا وتحتضنها بكل قوة، ولا تتنازل عنها، ولا تستبدل علاقتها بالمقاومة بأية علاقة أخرى.
لم يلتقط الحريري الإشارات السورية حول الثابت الاستراتيجي لديها وهو المقاومة، وأن علاقتها ليس مع أي طرف لبناني، بل مع دول العالم كله، هي النظرة الى المقاومة، والتعاطي معها سلباً أو إيجاباً، وأن سوريا ترفض القضاء على المقاومة وتجريدها من سلاحها، وهي وقفت بوجه أميركا وإسرائيل وحلفائهما إلى جانب المقاومة التي تتعرض في لبنان، ومن قبل المحكمة الدولية، إلى تصفيتها سياسياً ومعنوياً، ومادياً عبر قرار اتهامي بات معروفاً أنه مسيّس ومفبرك، دون الأخذ بقرائن قدمها “حزب الله” تشير إلى أن إسرائيل قد تكون متورطة في الاغتيال مما يؤكد أن المحكمة مسيّسة.
لذلك اختلفت القيادة السورية مع الحريري حول هذا الموضوع وهو الذي لم يبدّل موقعه السياسي، فبقي مع قوى 14 آذار، التي تمسكت بخطابها المناوئ لسوريا والمعادي للمقاومة، ولم ينقل رئيس “تيار المستقبل” جمهوره معه، بل كل ما فعله، أنه سعى إلى صداقة الرئيس الأسد عله يساعده على حلفاء سوريا في لبنان، ليتمكن من أن يحكم وحيداً ويستأثر بالسلطة، كما حصل مع والده في زمن إمساك عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي وغازي كنعان بالوضع اللبناني، لكنهم لم يمكنوه من المقاومة لأن الرئيس حافظ الأسد شكّل مظلة لها.
وقد ساهمت سوريا في تذليل العقبات من أمام سعد الحريري، وبالتفاهم مع السعودية أمّنتا الاستقرار في لبنان، وساعدتا في ولادة حكومة الوحدة الوطنية، وبيان وزاري متوازن، إلا أن ما جرى أن رئيس الحكومة لم يلتزم بسقف الوفاق السوري-السعودي، بل حاول استغلاله لصالح أن يكون رئيس حكومة فقط، وهو ما كان يثير ارتياب القيادة السورية، التي كانت تسأل المسؤولين السعوديين عن التزامات الحريري، الذي كان يتكئ إلى لعبة المحاور داخل الحكم السعودي ويستغلها ليتهرب من التزاماته وما وعد به الملك عبدالله عندما زاره في “بيت الوسط” إثر القمة الثلاثية في بيروت بأن يتجاوب مع ما يطلبه منه الرئيس الأسد، كما إلى تحالفه مع النظام المصري الذي ظل بعيداً عن المصالحة السورية-السعودية، لا بل وقف مع الفريق اللبناني المناهض لهذه المصالحة، وشجعه على استمرار التصعيد ضد سوريا ومن هؤلاء فؤاد السنيورة، كما استقبل رئيس الهيئة التنفيذية “للقوات اللبنانية” سمير جعجع الذي كان يقول إنه مع عودة العلاقة مع سوريا وذهاب الحريري إليها، لكنه في الوقت نفسه كانت بيانات الأمانة العامة لقوى “14 آذار” تحمّل سوريا الأزمات في لبنان.
فالحريري لم يلتزم بما كان تعهد به، ولم ينتقل من موقعه السياسي السابق إلى التحالف مع سوريا، كما فعل حليفه وليد جنبلاط، مما وتّر العلاقات بينه وبين القيادة السورية، التي عاملته معاملة خاصة واحتضنته، لكنه لم يقرأ التحول السوري الإيجابي تجاهه بل لعب لعبة مزدوجة مع سوريا، فهو معها وضدها في آن معاً، وقد جاءت المذكرات التي أصدرها القضاء السوري بحق شخصيات ادّعى عليها اللواء جميل السيد في دمشق، وأغلبهم من فريق الحريري الذي اعتبرها أنها رسالة سياسية له، في حين أن سوريا أكدت أنها قضائية بحت، بعد أن رفض القضاء اللبناني القبول بدعوى السيد أمامه، ولا يمكن للقضاء السوري أن يقف مكتوف الأيدي أمام قضية رُفعت أمامه، من قبل شخص أبدى مظلومية، حيث لم يقابل القضاء اللبناني بإيجابية المذكرات التي شنت حملة من “تيار المستقبل” و”14 آذار” عليها، مما يعني أن الحقيقة بدأت تقترب من الوصول إلى شهود الزور.
Leave a Reply