كمال ذبيان – «صدى الوطن»
منذ عقد الاتفاق بين «تيار المستقبل» و«التيار الوطني الحر»، قبل ثلاث سنوات، والذي أفضى إلى تسوية بينهما تقضي بانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وسعد الحريري رئيساً للحكومة، فإن العلاقة بين الطرفين تشوبها من وقت إلى آخر، هزات وارتدادات سياسية دون أن تسقط، لأن وراءها توافقاً إقليمياً وآخر دولياً بعدم زعزعة استقرار لبنان والحؤول دون عودته إلى ساحة لصراع الآخرين على أرضه، وسط جوار ملتهب، لاسيما في سوريا، حيث حافظ لبنان على أمنه، وطرد الجماعات الإرهابية التكفيرية، في البقاع الشمالي والهرمل، كما في طرابلس، ومناطق أخرى، وإن كانت عشية عيد الفطر قاسية على الطرابلسيين واللبنانيين عموماً، بعدما قام إرهابي من خلايا تنظيم «داعش» النائمة بقتل أربعة عسكريين بينهم ضابط في الجيش اللبناني قبل أن يفجّر نفسه، في خضم تطورات داخلية تنذر بتفجير لفض الاتفاق القائم بين عون والحريري.
تنازلات الحريري
تسوية عون–الحريري منذ إعلانها، رأى فيها حلفاء الأخير تنازلاً عن مبادئ «ثورة الأرز» التي قادتها قوى «14 آذار» في العام 2005 ضد سوريا ثم ضد سلاح المقاومة. لكن في الواقع، فإن «التحالف الرباعي» الذي عقد بعد الانسحاب السوري من لبنان في أبريل من العام نفسه، بين حركة «أمل» و«حزب الله» و«الحزب التقدمي الاشتراكي» و«تيار المستقبل»، شكل أول أسس التنازلات التي جرت محاولات لوقفها، إلا أن أحداث 7 أيار 2008، قلبت الموازين الداخلية لصالح قوى «8 آذار»، وأقامت توازناً في الحكم بين الفريقين، بفرض الثلث المعطل داخل الحكومة، دون أن يتمكّن أي فريق من إيصال مرشحه إلى رئاسة الجمهورية، فكانت التسوية الإقليمية–الدولية بانتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان، الذي نصّ عليه اتّفاق الدوحة في ذلك العام، وتبعته تنازلات متلاحقة بزيارة الحريري و جنبلاط إلى سوريا، بعد المصالحة السورية–السعودية التي سقطت في مطلع 2011، مع اندلاع ما سمي «الربيع العربي» الذي طالت نيرانه سوريا، فحصل انقلاب عليها في لبنان، بتبني الحريري وجنبلاط وسائر قوى «14 آذار» «للثورة السورية» ضد الرئيس بشار الأسد، بعد أن كان الحريري وجنبلاط قد اعتذرا منه وأسقطا الادعاءات التي تتهمه بالوقوف وراء اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
انتخاب عون
وبلغت التنازلات التي قدّمها الحريري، ذروتها في قبوله بانتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية، وهو مرشح «حزب الله» المعلن، بعد أن حاول الهروب من هذا الخيار عبر الموافقة على ترشيح سليمان فرنجية، لكن تمسك «حزب الله» باسم عون، فرض على الحريري، القبول به رغم معارضة صقور «تيار المستقبل» الذين تقدمهم رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة مع عدد من نواب «كتلة المستقبل» الذين تمردوا على انتخاب عون، ومن أبرزهم أحمد فتفت ومعين المرعبي، في حين أن الوزير نهاد المشنوق، سار في التسوية الرئاسية، وساندها وسوّق لها، كحل لا بدّ منه، بعد حوالي عامين ونصف من الفراغ الرئاسي الذي وافق رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع على سدّه بانتخاب عون، كأهون الشرّين بدلاً من فرنجية، بعد تفاهم معراب الذي يتهم القواتيون «التيار الوطني الحر» بنقضه.
تمثيل الأقوى طائفياً
لكن التسوية الرئاسية التي رآها الحريري انتصاراً للبنان وانتظاماً لعمل المؤسسات الدستورية، عاملها «التيار الوطني الحر» على أنها أعادت الحق لأصحابه بوصول الأقوى مسيحياً إلى رئاسة الجمهورية ليكون تمثيلهم في تركيبة الحكم حقيقة لا وهماً، وسمي عون بـ«الرئيس القوي» استناداً إلى أنه يمثل الأكثرية في طائفته، وهي النظرة نفسها التي برر فيها رئيس التيار جبران باسيل دعمه لترؤس الحريري للحكومة باعتباره الأقوى سنياً، وتولي نبيه برّي رئاسة مجلس النواب باعتباره الأقوى شيعياً بتحالفه مع «حزب الله».
ووفق هذه النظرية، جاء قانون الانتخاب الجديد لينتقل من النظام الأكثري إلى النسبي، واعتماد الصوت التفضيلي لاختيار الممثلين الحقيقيين عن طوائفهم، في توجّه رسخ النظام الطائفي على عكس ما نصّ عليه اتفاق الطائف الذي دعا إلى اعتماد قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، مع تشكيل مجلس شيوخ تتمثّل فيه المكونات الطائفية، وبدء العمل بالهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، لكن هذه الإصلاحات لم يُعمل بها، مما يبقي الحالة الطائفية عميقة داخل الدولة والمجتمع وينذر بانفجار، في أي وقت تقرر فيه الدول النافذة فعل ذلك.
المارونية والسنّيّة السياسية
ولأن اتفاق الطائف لم يطبّق، والذي رسم خارطة طريق لإصلاح النظام السياسي والخروج من الحالة الطائفية المؤقتة، كما ورد في المادة 95 من الدستور، فإن الخطاب الطائفي يرتفع مع كل حدث سياسي، أو موقف يعبّر عن واقع ما، كما حصل لمجرد التذكير بالـ11 مليار دولار التي صُرفت في عهد السنيورة وقطع الحساب عن هذا المبلغ، فالتأم المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى، في دار الفتوى، وأصدر بياناً اعتبر فيه السنيورة «خطاً أحمر»، فتمّت تغطيته طائفياً من دون محاسبة، ومثله آخرون.
أو عندما تحدث باسيل عن أن مشاركة «التيار الوطني الحر» في السلطة، جاءت بعد أن تقدّمت «السنّيّة السياسية» على «جثة المارونية السياسية»، فأثار موقفه ردود فعل متشنجة، والتقط الوزير المشنوق كلام باسيل ليرد عليه بوصفه تطاولاً على الطائفة السنّيّة ودعا إلى فكّ التحالف السياسي مع «التيار الوطني الحر».
وبالرغم من أن باسيل نفى ما نقل عنه في تل ذنوب في البقاع الغربي، أثناء لقائه مع نخب من الطائفة السّنيّة، للتحاور معها، فإن المتربصين بالحريري من داخل بيئته السياسية، رأوا أن الفرصة مناسبة للانقضاض عليه، وإخراجه من رئاسة الحكومة، التي أضعف مقامها وترك لباسيل أن يقوى عليه، ويعيد ترميم «المارونية السياسية»، وهو ما يشعر به جنبلاط في الجبل، بعودة «الشمعونية» بالتحالف مع قوى درزية مناوئة له، وعلى رأسها النائب طلال إرسلان، لتحجيم دور «المختارة»، في وقت يرى باسيل أنه أعاد حقوق المسيحيين التي كان جنبلاط يصادرها بسيطرته على مقاعدهم النيابية والوزارية، كما في استغلال قضية المهجرين، حيث تولّى غسان عطاالله وهو ابن بلدة بطمة المجاورة للمختارة وزارة المهجرين، مما أزعج جنبلاط الذي يهاجم عهد عون من وقت إلى آخر. كما لا يوفّر جنبلاط الحريري باتهامه بأنه «انبطاحي» أمام باسيل الذي يخوض معارك على جبهات متعددة، بدأها مع الرئيس نبيه برّي، عندما وصفه بـ«البلطجي»، مروراً بالتذكير بتاريخ «القوات اللبنانية» الأسود خلال الحرب الأهلية ومحاولة إقصائها، وصولاً إلى زغرتا عقر رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية، وكل ذلك من أجل الوصول إلى رئاسة الجمهورية فأبلغه «حزب الله»، أن ما حصل مع العماد عون قد لا ينطبق عليه، وأن لا يستعجل «حرق المراحل»، لأن فرنجية كان المرشح الثاني بعد العماد عون.
احتجاز الحريري داخلياً
أمام «الصعود الباسيلي وتصعيده» لجهة استعادة حقوق المسيحيين، وإنكاره عودة المارونية السياسية التي لا ينتمي إليها العماد عون، بل إلى الميثاقية التي تعني المشاركة بتوازن في السلطة، فإن الحريري بقي صامتاً وترك لأمين عام «تيار المستقبل» أحمد الحريري، أن يقوم بمهمة الردّ والتصويب، وإلى «تلفزيون المستقبل»، أن يعلن في مقدمة نشرة أخباره الاستياء من كلام باسيل حول السّنّية السياسية التي رأى فيها منافسو الحريري فرصة لإحراجه وإخراجه من السراي، عبر إسقاط التسوية مع عون، وهو ما دعا إليه المشنوق صراحة، فيما ينقل عنه في مجالسه الخاصة وصفه للحريري بـ«قلة الوفاء»، وهو الذي وقف إلى جانبه في محنته أثناء احتجازه في السعودية.
شكّل موقف المشنوق المتشدّد من باسيل، رسالة جلية إلى الحريري، بأن عليه أن يتحمّل مسؤولية إضعاف موقع رئاسة الوزراء، ولا بدّ من تصحيح الخلل، بإعادة التوازن وتنحي من تسبب بإضعاف الموقع السني الأرفع في السلطة. وقد نقل عن المشنوق، أن مفتي الجمهورية الشيخ عبداللطيف دريان يوافقه الرأي، الذي يعبّر عنه أيضاً رؤساء حكومات سابقين، في كل مرة يتمّ التعرض فيها لصلاحيات رئيس الحكومة.
وأمام شبه الإجماع بين القيادات السنية على رفض ما صدر عن باسيل، يرى المراقبون أن الحريري بات محتجزاً داخل طائفته التي لن تسايره في التنازل عن «الحقوق» التي حصلت عليها الطائفة السنية في اتفاق الطائف، ومنها أن مجلس الوزراء أصبح المؤسسة الدستورية التي تناط بها السلطة التنفيذية، لا رئاسة الجمهورية، حيث يحاول باسيل الانحراف عن الطائف، لجهة تكريس أعراف جديدة، لن يقبل بها السُّنّة.
الحريري إذاً بات أسير طائفته، ومطالباً بفك تحالفه مع عون، أو أن يغادر السراي، وهو ما لن يقبله تحت عنوان الحفاظ على الاستقرار.
Leave a Reply