تشكيل الحكومة يكشف أزمة النظام السياسي اللبناني واستحضار الخارج
بيروت –
تشكيل الحكومات في لبنان منذ الاستقلال إلى اليوم كان يمر دائما بأزمات، كانت تؤدي إلى تفجير حروب أهلية، والسبب في ذلك، موضوع المشاركة في الحكم، إذ أن التسوية الطائفية التي قام عليها النظام السياسي، تنتج عدم استقرار في السلطة، وتخلّف إرباكات داخلها، مما يكشف خللاً في التركيبة الطائفية للنظام، حيث كانت الطوائف والمذاهب تشعر أنها مهمشة فيه، وأن طائفة ما تستأثر بالقرار وتتفرد بالسلطة، فكان يقع الصدام، ويتحول إلى حرب داخلية، إذا ما قام كل فريق طائفي أو سياسي باستقدام الخارج إلى الداخل، أو استند في تحركه على دعم عربي أو إقليمي ودولي، أو استفاد من تحولات ما خارجية، ليحاول فرض شروطه وتأمين مصالحه، من خلال الارتباط بمحاور خارجية.
ففي تاريخ لبنان ومع كل تغييرات عربية وإقليمية ودولية، كان تأليف الحكومات يتأثر بها، وهذا ما حصل في محطات سياسية عديدة، ومنها أول حكومات عهد الاستقلال برئاسة بشارة الخوري، حيث كان الاشتباك الفرنسي-البريطاني على الأرض اللبنانية ، وكان الانحياز الفرنسي إلى اميل اده، والانكليزي إلى بشارة الخوري، ومن ثم في عهد الرئيس كميل شمعون عندما ارتبط عهده بالمشروع الأميركي للرئيس دوايت ايزنهاور في منتصف الخمسينات، والتحق بـ”حلف بغداد” وجاء تشكيل الحكومة ليتوافق مع الخيار السياسي للعهد الشمعوني المرتبط بالغرب، في مواجهة المد الناصري الذي كان يحمل فكرة الوحدة العربية، ثم في التصدي للتمدد الشيوعي في المنطقة، وكان من جراء ذلك وقوع معارك بين المحورين انتهت إلى انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية بقرار اميركي-مصري، فجوبه بثورة مضادة، قادها حزب الكتائب في مواجهة حكومة العهد الأولى، الذي رضخ لشروط الكتائب، وتم تشكيل حكومة رباعية غاب عنها تمثيل طوائف أساسية.
وهكذا كان النظام السياسي، يستولد الأزمات وكان أبرزها في العام 1969 عندما وقعت الاشتباكات بين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية، فنشبت أزمة ثقة بين القوى اللبنانية، إذ اصطف الفريق المسيحي مع الجيش والحلف الثلاثي المكون من الكتائب والأحرار والكتلة الوطنية، والفريق المسلم السني مع الفلسطينيين داعمين ثورتهم ومؤيدين العمل الفدائي، الذي كان في أوج نشاطه وظهوره واحتضان الشعوب العربية له، بعد نكسة الأنظمة العربية في العام 1967، دام تشكيل الحكومة التي كلف برئاستها رشيد كرامي، نحو سبعة أشهر، ولم تؤلف إلا بعد تدخلات خارجية، وتوقيع اتفاق القاهرة برعاية مصر بين الجيش ومنظمة التحرير الفلسطينية، وهذه التسوية دامت نحو أربع سنوات، وانفجرت في العام 1973، بعد اغتيال ثلاثة من قادة الثورة الفلسطينية في 15 نيسان في منطقة “فردان” في بيروت، وعلى مقربة من مقر لقوى الأمن الداخلي، فدخل لبنان في أزمة حكم، عندما طالب رئيس الحكومة آنذاك صائب سلام، بإقالة قائد الجيش العماد اسكندر غانم، وانقسم اللبنانيون حول الجيش ودوره، حيث بدأ منذ ذلك التاريخ التأسيس للحرب الأهلية، إذ رفع المسلمون عنوان المشاركة في الحكم، ومقولة أن رئيس الجمهورية يحكم ولا يحاسب، في حين أن رئيس الحكومة هو “باشكاتب” عند رئيس الجمهورية، ويدفع ثمن أخطاء العهد السياسية، وهو ما دفع بالقوى الوطنية إلى طرح إصلاح النظام السياسي، وتحريره من الطائفية بإلغائها من الدستور، الذي نصت المادة 95 منه، على أن الحالة الطائفية مؤقتة، ولا بد من إيجاد وضع لمعالجتها، وهكذا دخلت البلاد منذ منتصف السبعينات في أزمة ثقة، نتجت عن خلافات أساسية وجوهرية، تتعلق بالنظام السياسي ومفهوم المشاركة فيه، إلى دور لبنان في الصراع العربي الإسرائيلي، ومهمة الجيش في الدفاع عن السيادة، وقد أدى هذا الصراع إلى اشتباكات بين الجيش والفلسطينيين الذين اصطفوا إلى جانب المسلمين، فاتخذ الخلاف طابعاً طائفياً، ولم تنجح المحاولات الخارجية في وقف الفتنة، ولم تتمكن طاولات الحوار الداخلية من الوصول إلى تسويات سياسية تتعلق ببنية النظام، وقد دخلت عوامل خارجية على الأزمة، فبالإضافة إلى الوضع الفلسيطيني المؤثر بسبب وجود حوالي 300 ألف لاجئ في المخيمات حملوا السلاح دفاعاً عن قضيتهم، بعد تخلي الأنظمة العربية عنهم، ثم للدفاع عن وجودهم في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية.
كما حضر الدور السوري في الأزمة، ولم تغب مصر التي كانت إلى جانب الكتائب في بداية الحرب، وكذلك السعودية، وجرت محاولات لتدويل الأزمة، فحضرت فرنسا عبر مبعوثها “دومورفيل”، وأميركا عبر موفدها “دين براون” إضافة الى الفاتيكان، مختلطاً التعريب بالتدويل، فاتحا الباب لإسرائيل للدخول أيضاً تحت ذريعة أن الأحزاب المسيحية طلبت منها المساعدة لمواجهة الزحف الفلسطيني نحو المناطق الشرقية، بمشاركة قوات الحركة الوطنية، فيما أسرعت سوريا لطرح مبادرة سياسية، لمنع الدخول الإسرائيلي إلى الداخل اللبناني، وقيام “إسرائيل ثانية” وتقسيم لبنان، الذي سيكرس تفتيت المنطقة، لكن اسرائيل احتلت اجزاء كبيرة من لبنان ووصلت الى العاصمة، وفرضت حكما تابعا لها،لتوقيع اتفاق سلام معها،اسقطته المعارضة والمقاومة الوطنية، ولم يتمكن امين الجميل الذي وصل الى رئاسة الجمهورية بعد مقتل شقيقه بشير الذي اقام علاقات مع اسرائيل التي اوصلته بدباتها الى القصر الجمهوري.
فالحضور الخارجي في الأزمة اللبنانية ناجم عن النظام السياسي، الذي أنشئ في زمن السلطنة العثمانية، وقام على الثنائية الدرزية-المارونية في جبل لبنان، إثر إحداث عام 1840 – 1860، ليكرس حكم القائمقاميتين، هذا النظام استمر في تركيبته الطائفية مع الانتداب الفرنسي الذي كرّسه عبر تكبير جبل لبنان نحو الأقضية الأربعة، وتم اعتماد الثنائية المارونية-السنيّة التي أنتجت ما سمي بـ”الصيغة” و”الميثاق”، لكن هذه التسوية انتهت في اتفاق الطائف الذي شكل مدخلاً لحل معضلة الطائفية في لبنان، لكن بالممارسة تكرست مذهبية سياسية، إذ بات لبنان أمام تكوين لنظامه من “الترويكا” التي تكرست في أول عهد بعد الحرب الأهلية، إذ اعتمدت في أيام الرئيس الياس الهراوي، الذي شعر أن صلاحياته كرئيس للجمهورية تراجعت، وبات الوزير أقوى منه، كما أن الشيعة حصّنوا رئاسة مجلس النواب بأربع سنوات ومقر لرئيس المجلس، كانوا يرغبون في أن يكونوا شركاء في القرار من خلال الحكومة، فكان الرئيس نبيه بري يشارك في اجتماعات “الترويكا” وهي صيغة مبتكرة لأزمة النظام، في أن يكون الرقيب على أعمال الحكومة مشاركاً فيها، حيث كان رئيس الحكومة رفيق الحريري، يشعر وكأنه مطوق، إذ كان بإمكان وزراء حركة “أمل” مشاكسته في الداخل وتعطيل قرارات مجلس الوزراء، فانكشفت أزمة نظام الطائف ودستوره، وبدأت المطالبة بتعديله، أو بتطبيقه باتجاه إلغاء الطائفية، لكن مع مرور حوالي عشرين عاماً على صدروه، فإن هذا الاتفاق الذي كان تسوية بين اللبنانيين برعاية عربية ودولية، لوقف الحرب الداخلية والانتقال إلى السلم الأهلي، تبين أنه لم يحل أزمة النظام، التي تستفحل، وقد شهدنا ذلك أيام الوجود السوري، أزمات وزارية وحكومية، كانت سوريا الممسكة بالوضع اللبناني تتدخل لمنع الانفجار الداخلي، ولكن دون تقديم حل جذري، حيث عندما خرجت سوريا بقواتها ومخابراتها من لبنان، ظهرت أزمة النظام على حقيقته، إذ أن أول حكومة شكلت بعد خروج الجيش السوري برئاسة نجيب ميقاتي تمت برعاية عربية وإقليمية ودولية ( السعودية – سوريا- إيران- فرنسا- أميركا) وأن حكومة ما بعد انتخابات 2005، جاءت نتيجة التحالف الرباعي بين حركة “أمل” و”حزب الله” و”تيار المستقبل” و”الحزب التقدمي الاشتراكي” بذات الرعاية الخارجية، وعندما اختل هذا التحالف لأسباب تتعلق بخروج قوى “14 آذار” عن الاتفاق السياسي لذاك التحالف الذي يحمي المقاومة، والرهان على المشروع الأميركي للمنطقة وتسليم لبنان إلى الإدارة الاميركية برئاسة جورج بوش، فوقع الصدام ودخل لبنان في أزمة سياسية ودستورية وتوترات أمنية، أدت إلى أحداث “7 أيار”، التي أفرزت نتائجها العسكرية على الأرض فرض المعارضة قوتها، والوصول الى تسوية سياسية عبر اتفاق الدوحة الذي تم برعاية عربية ودولية فشكّل الحكومة كما طالبت المعارضة بحصولها على الثلث الضامن.
ومع تكليف سعد الحريري بتشكيل الحكومة بعد انتخابات 2009، التي سلم الجميع بنتائجها، ولم تعط أي طرف انتصاراً كاملاً، وفرضت ضرورة المشاركة فيها من جميع القوى السياسية، وهو ما أعلن عنه الرئيس المكلف سعد الحريري، فإن الأزمة بقيت هي هي في تفسير مفهوم المشاركة، وهو السبب الذي يؤدي إلى التأخير في ولادة الحكومة.
فاتفاق الطائف، حل مشكلة رئيس الحكومة الذي كان يفرضه رئيس الجمهورية، وأصبح تعيينه أو تكليفه يخضع لاستشارات نيابية ملزمة، تعززها الكتل النيابية، ولكن لم يحل اتفاق الطائف مسألة تشكيل الحكومة، إلا بما نصت عليه مقدمة الدستور أن لا شرعية لأي سلطة لا تستند إلى صيغة العيش المشترك، وهو ما فسرها البعض بالديمقراطية التوافقية، وأن حكومات ما بعد الطائف يجب أن تشكل على قاعدة الوفاق الوطني.
فالأزمة ليست تقنية في أعداد ما تحصل عليه الموالاة أو المعارضة أو رئيس الجمهورية، بل في عمق النظام السياسي، الذي يوّلد مثل هذه الأزمة، كما غيرها من الأزمات، إذ أن موازنة لمؤسسة مثل مجلس الجنوب، توقف الموازنة بكاملها، وتعطّل أعمال الحكومة، وكذلك التعيينات في الفئة الأولى على مختلف مستوياتها، لأنها مبنية على أسس طائفية، ولأن مؤسسات الدولة موزعة على الطوائف والمذاهب عرفاً لا دستوراً أو قانوناً، فتصبح التعيينات محاصصات، وتوزع الوظائف على المحاسبين والأزلام كمغانم، وتتعطل عمليات الرقابة وتتلاشى الماحسبة.
وعندما يدخل تشكيل الحكومة شهره الثاني وهي لم تبصر النور بعد، ولم يقدم رئيسها المكلف صيغة معينة، وان كان الرئيس نبيه بري ما زال متفائلا بأن الحكومة ستولد قبل نهاية الشهر وبشَر البنانيين بتقدم سياسي حصل ،والحل المطروح هو صيغة 15-10-5، ويسمي رئيس الجمهورية وزيرا شيعيا يوافق علية “حزب الله” وحركة “امل” وتم التداول باسم الكاديمي الجامعي الدكتور عدنان السيد حسين، وهو من فريق الرئيس ميشال سليمان، كما يجري التداول بغالب محمصاني كوزير سني بموافقة تيار المستقبل، بحيث يكون رئيس الجمهورية هو المرجح بين الموالاة والمعارضة، ويعطى حيثية ما في مجلس الوزراء ،لكن ثمة عقبة قد تنتظر تأليف الحكومة تتعلق بالتمثيل المسيحي داخلها، وهو ما المح اليه سياسيون مسيحيون موالون ومعارضون، كما ان توزيع الحقائب ليس بالامر السهل، وهذه الصيغة التي برزت وبدأ الترويج لها تكشف عن ان ما يقال ان لا عودة إلى الثلث الضامن للمعارضة، يؤشر إلى أزمة ثقة، تسبب بها النظام السياسي، الذي أفرز في انتخاباته على أساس القانون الطائفي، موضوع المشاركة من ضمن حجم الكتل النيابية التي تمثل الطوائف والمذاهب وهكذا أثبتنا أمام مشهد فدرالية الطوائف والمذاهب، وهذا أمر خطير، يؤسس لحرب أهلية تؤججها مصالح الطوائف وتعمل على إشعالها تدخلات خارجية.
فهل اقتنع اللبنانيون أن نظامهم هو الذي يوصلهم إلى الأزمات والفتن والاقتتال، وأن ما يسمى حكومة وحدة وطنية، ما هو إلا حكومة المصالح الطائفية!
Leave a Reply