بدا احتفال «تيار المستقبل» بالذكرى الثالثة عشر لاغتيال الرئيس رفيق الحريري مختلفاً عما سبقه طيلة الأعوام الماضية، في انعكاس لـ«المزاج» المتبدل للرئيس سعد الحريري بعد أزمته الأخيرة في السعودية، وما كشفته من خيانة له أو تحريض عليه، وفق «القرار الظني» السياسي الذي توصل اليه.
العلامة الفارقة الأهم للاحتفال الذي أقيم في قاعة البيال–وسط بيروت، تمثلت في غياب شخصيات قيادية في «14 آذار»، كانت تُصنف في الماضي من ثوابت المقاعد الأمامية في الصف الأول.
ولعل من أبرز الغائبين رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الذي اكتفى بإرسال وفد يمثل «القوات»، من دون أن يحضر شخصياً كما درجت العادة في السنوات الماضية، ما أعطى انطباعاً واضحاً بأن المشكلة المستجدة بينه وبين الحريري لا تزال مستعصية على المعالجة الحقيقية، برغم المحاولات التي بذلها الجانبان مؤخراً لاحتوائها، وتحديداً عبر لقاءات مستشار الحريري وزير الثقافة غطاس خوري ووزير الإعلام القواتي ملحم رياشي.
وعليه، فإن امتناع جعجع عن الحضور أعطى إشارة واضحة إلى أن اجتماعه المنتظر مع الحريري لا يزال متعذرا، حتى إشعار آخر، في دلالة واضحة على أزمة الثقة المستفحلة بينهما، وسط قناعة رئيس «تيار المستقبل» بأن رئيس «القوات» أدى دوراً سلبياً أثناء أزمة استقالته وإقامته في السعودية.
الغائب البارز الآخر كان رئيس حزب «الكتائب» النائب سامي الجميل، في ترجمة لعلاقته السيئة مع الحريري، منذ أن قرر تصدر صفوف المعارضة للعهد وللحكومة بعد استبعاد حزبه عن حكومة الوفاق الوطني وشعوره بأن هناك محاولة لعزله. وقد شن الجميل خلال الأسابيع الماضية حملات عنيفة على الحكومة متهماً إياها بالتقصير والفشل في معلجة ملفات حيوية، كما أنه لا يخفي اعتراضه الشديد على التسوية التي أوصلت ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية وسعد الحريري إلى رئاسة الحكومة، معتبراً أنها تمت على حساب «ثوابت 14 آذار».
وفي المقابل، يتهم المقربون من الحريري رئيس «الكتائب» بأنه يستخدم سياسة شعبوية تهدف إلى التلاعب بالعواطف وتحوير الحقائق من أجل تحقيق مكاسب انتخابية في صناديق الاقتراع، مع اقتراب موعد الاستحقاق الديمقراطي.
هذا الاحتقان المتراكم، انفجر في احتفال البيال ليس فقط عبر مقاطعة الجميل له، وإنما أيضاً من خلال انسحاب ممثلي «الكتائب» (الوزير السابق آلان حكيم والنائب نديم الجميل) بسبب طريقة التعاطي معهما من قبل القيّمين على الإجراءات البروتوكولية للحفل وعدم تخصيص مكان لهما في المقاعد الأمامية.
المُقاطع الآخر لاحتفال البيال والذي حمل غيابه دلالات رمزية وسياسية هو منسق الأمانة العامة لقوى «14 آذار» الدكتور فارس سعيد الذي كان قد أكد قبل أيام من المناسبة أنه قطع علاقته كلياً بالحريري، اعتراضاً على سياساته وخياراته، علماً أن المقربين من الحريري يتهمون سعيد بأنه كان من المحرّضين على رئيس الحكومة في السعودية وأنه ضخ تقارير كاذبة ضده في القصور الملكية، وهذا ما دفع الوزير غطاس خوري منذ فترة إلى نشر تغريدة قاسية، عبر تويتر، بحقه.
وأياً يكن الأمر، فإن انكفاء سعيد عن الحضور، بفعل الحظر السياسي المفروض عليه من «المستقبل»، انما يعكس حجم التشظي الذي أصاب جسم «14 آذار» المتداعي، لاسيما أن سعيداً كان يؤدي دور منسق الأمانة العامة، بكل ما يحمله هذا الموقع من رمزية، وبالتالي فإن الفراق بينه وبين الحريري هو أقوى مؤشر إلى الواقع المتردي الذي آلت إليه قوى «14 آذار»، برغم مكابرة بعضها.
الغياب الأكبر
أما الغياب، الأقوى دوياً، فهو للواء أشرف ريفي الذي كان يُصنف من «عظام الرقبة» في «تيار المستقبل» وعائلة الحريري، قبل أن ينقلب عليهما ويتحول إلى خصم لدود لهما في الساحة السنية التي ستكون مسرحاً لمعركة انتخابية حادة بين الطرفين.
وإذا كان ريفي يعتبر أن الحريري خان الثوابت السيادية نتيجة التسوية التي أبرمها مع «حزب الله» و«التيار الوطني الحر»، فإن رئيس «المستقبل» يحمّل المدير العام السابق للأمن الداخلي المسؤولية الأساسية عن التحريض عليه في السعودية والإمارات العربية المتحدة، طمعاً بدور سياسي ومكاسب شخصية ضيقة.
وفي خطابه أمام مناصريه، وجه الحريري كلاماً قاسياً إلى ريفي من دون أن يسميه، مشيراً إلى انه ساهم في تسطير التقارير بحقه وبيع العرب بضاعة سياسية لبنانية مغشوشة، وانه يحاول أن يبعثر تياره وان يقتات من فتات موائد «المستقبل»، لخدمة مصالح «حزب الله» الانتخابية.
وإلى جانب المُستبعدين علناً وصراحة، جرى إحراج بعض الحضور لإخراجهم من البيال، كما حصل مع رئيس حركة الاستقلال ميشال معوض والسيدة مي شدياق اللذين انسحبا من الاحتفال احتجاجاً على المعاملة السيئة لهما.
يوحي كل ما سبق، أن الحريري اتخذ قراراً بتصفية حساباته مع الذين يعتقد بأنهم طعنوه في الظهر أو أساؤوا اليه خلال المحنة السياسية التي واجهته في السعودية، وهو اختار مناسبة البيال لتوجيه رسائله إلى من يعنيهم الأمر، مدشناً بذلك مرحلة التعبئة الانتخابية لمناصريه.
الحريري و«حزب الله»
ولوازم التعبئة تطلبت من الحريري، ليس فقط الهجوم على الأصدقاء السابقين، وإنما كذلك شد العصب في مواجهة الخصوم، وفي طليعتهم «حزب الله»، من خلال إعلانه عن عدم نيته التحالف مع الحزب في الانتخابات النيابية المقبلة، علماً أن أحداً من المعنيين لم يطرح عليه أساساً أي خيار من هذا النوع.
صحيح، أنه سبق لرئيس «المستقبل» أن اتخذ قراراً بربط النزاع مع الحزب على المستوى الاستراتيجي، سواء في الحكومة أو خارجها، لكن الحسابات التكتيكية المتعلقة باستقطاب الأصوات والتصدي للمزايدين ستدفعه –كما يبدو– إلى رفع وتيرة نبرته في مواجهة الحزب، حتى نهاية المعركة الانتخابية، علماً أنه سبق أن نُسب لأحد السياسيين قوله قبل فترة إن الحريري تمنى –في مجالسه الخاصة– على قيادات «8 آذار» تفهم دوافعه للتصعيد في الخطاب السياسي عشية الانتخابات.
وما يزيد من حاجة الحريري إلى التصعيد الانتخابي ضد الحزب هو إفلاسه المالي الذي جاهر به في خطاب البيال، مفترضاً أن التشدد في مخاطبة الحزب يمكن أن يعزز رصيده الشعبي في الانتخابات وبالتالي أن يعوض عن الشح في المال الانتخابي.
من الآن وحتى إقفال صناديق الاقتراع في أيار (مايو) المقبل لا جمرك على الكلام. إنها الضريبة الانتخابية التي لا مفر منها.
Leave a Reply