تحت ضغط الحراك في الشارع
كمال ذبيان – «صدى الوطن»
دخل «الحراك الشعبي»، أو ما يطلق عليه «ثورة»، أو «انتفاضة»، أسبوعه الرابع، ومازال المتظاهرون في الساحات، والطرقات مقطوعة على مساحة لبنان، من الشمال إلى الجنوب، مروراً بالعاصمة بيروت والجبل والبقاع. وبينما حقّق المحتجون أحد مطالبهم، وهو استقالة الحكومة، بإعلان رئيسها سعد الحريري استقالته «تحت ضغط الشارع»، إلا أن قوى سياسية حليفة للمقاومة، ترى في قرار الحريري تلبية لطلب أميركي–سعودي، بإخراج «حزب الله» وحلفائه لاسيما «التيار الوطني الحر» من الحكومة، وتشكيل حكومة غير سياسية من «التكنوقراط»، في انقلاب صريح على نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة.
استشارات سياسية
ولم تؤدَّ استقالة الحكومة إلى «صدمة إيجابية»، كما توقع الرئيس الحريري، لا بل بقيت الاحتجاجات والتظاهرات وقطع الطرقات على حالها، بل إن هذه التحركات رُفدت بأنصار «تيار المستقبل» الذين خرجوا إلى الشارع وقطعوا الطرقات في المناطق ذات «الكثافة السّنّية»، رافضين أن تطلع «فشّة الخلق» «برئيس الحكومة السّنّي»، فيما يبقى «رئيس الجمهورية الماروني»، و«رئيس مجلس النواب الشيعي» في منصبيهما، لترتفع المطالب برحيل الرؤساء الثلاثة تحت شعار «كلن يعني كلن».
سياسياً، وجه الحريري باستقالته رسالة إلى الداخل، بأن لا أحد غيره قادر على ترؤس حكومة جديدة في الأوضاع المالية والاقتصادية المزرية التي تعاني منها البلاد، وهو ما اضطر رئيس الجمهورية العماد ميشال عون إلى تأجيل الاستشارات النيابية الملزمة، لإجراء استشارات سياسية على شكل الحكومة القادمة وعدد الوزراء تفادياً لإطالة فترة التأليف.
شكل الحكومة
في الشارع، رفع قرار تأخير الاستشارات النيابية من وتيرة التصعيد، وبات استمرار التظاهرات عنصر ضغط سياسي بأيدي خصوم العهد في التفاوض على شكل الحكومة ودورها في المرحلة القادمة، فهي إما تكون سياسية، أو من أصحاب الاختصاص «تكنوقراط»، أو مختلطة» من سياسيين و«تكنوقراط».
وفي الواقع، لم يغب أصحاب الاختصاص عن حكومات تشكّلت قبل الطائف وبعده، حتى أن أول حكومة تشكّلت في بداية عهد الرئيس سليمان فرنجية عام 1970، ترأسها صائب سلام وضمّت شخصيات مستقلة، ومن أصحاب اختصاص وسميت بـ«حكومة الشيّاب».
وقد عرف لبنان حكومات من كل الأنواع السياسية، والمختلطة وحتى العسكرية، برئاسة قائد الجيش، في تجربتين للواء فؤاد شهاب بعد استقالة الرئيس بشارة الخوري في أيلول 1952، والعماد ميشال عون بعد نهاية عهد الرئيس أمين الجميّل في آب 1988، كما تشكّلت حكومة مختلطة برئاسة اللواء نورالدين الرفاعي أحد قادة قوى الأمن الداخلي من عسكريين واختصاصيين، في عهد الرئيس سليمان فرنجية، إلى أخرى برئاسة أمين الحافظ كان فيها ضباط من الجيش.
والخلاف يدور حول شكل الحكومة، لا على رئيسها الذي سيكلّف، إذ يوجد توافق على أن يعود الحريري إلى السراي، لكنه يعود بشروطه، وبسقف أعلى، مؤيداً مطلب تشكيل حكومة تكنوقراط، كما «القوات اللبنانية»، والى حد كبير رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، من أجل إخراج «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» ورئيسه جبران باسيل منها، وهو ما لقي رفضاً من «حزب الله»، الذي يعتبر هذه الخطوة أمر عمليات أميركي–سعودي، من أجل إخراجه من السلطة في لبنان وتشكيل حكومة تلبي رغبات واشنطن والرياض التي لم يستجب لها الحريري منذ عامين، ودفع ثمنها عند احتجازه في الرياض وإجباره على استقالته منها لإحداث «صدمة إيجابية»، غير أن الرئيس عون اعتبر استقالة الحريري آنذاك «غير دستورية» مطالباً بعودة الحريري إلى بيروت، وهو ما تم بتدخل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي حرّره من أسره في المملكة.
الشروط
تحت ضغط التحركات في الشارع وتحرك الجيش لإعادة فتح الطرقات، أعاد الحريري قنوات الاتصال مع رئيس «التيار الوطني الحر»، الوزير جبران باسيل، والتقيا في «بيت الوسط» في محاولة منهما لترميم «التسوية الرئاسية» لكن بشروط مختلفة، خاصة وأن الحريري يدرك بأن «حزب الله» وحركة «أمل» ليس لديهما مرشح غيره، فيما يسعى «حزب الله» وحلفاؤه إلى فرملة مطالب الحريري، التي تتركّز على حكومة تكنوقراط، أو مختلطة دون أن تضم وزراء مستفزين ومن أبرزهم باسيل الذي تعرض لحملة شيطنة واسعة.
لكن «التيار الوطني الحر» يرفض أن يكون رئيسه «كبش فداء» وهو الذي يرفع شعار تمثيل «الأقوياء في طوائفهم»، وهي الصيغة القائمة حالياً في السلطة، تجسيداً لمضمون مقدمة الدستور، حول أن تكون السلطة التنفيذية ممثلة لشرائح المجتمع اللبناني في طوائفه، لتكرس «صيغة العيش المشترك.، كما أن تشكيل حكومة برئاسة الحريري الذي يمثّل أكبر كتلة نيابية في طائفته، يجب أن يوازيه توزير باسيل لأنه يمثّل أيضاً الكتلة الأكبر مسيحياً، وإلا فإن الحكومة تعتبر غير ميثاقية إذا لم تضم المكونات الطائفية، وهو ما ينطبق على كتل نيابية أخرى لها حجم تمثيل طائفي ومذهبي، وهو ما أخّر الدعوة للاستشارات النيابية، التي لا يملك الحريري وحلفاؤه الأكثرية النيابية لتسميته، بل هي مع «حزب الله» وحلفائه، مما يعني أن الحريري ليعبر إلى التكليف عليه أن يوافق على تأليف حكومة سياسية نظيفة مطعمة باختصاصيين وفق دعوة رئيس الجمهورية.
الجميع في مأزق
المشهد العام يشي بأن جميع الأطراف في مأزق. فالسلطة تعيش صراعات داخلية بين أقطابها، أما مطالب الحراك فتدور في حلقة مفرغة، حيث يطالب المحتجون بحكومة مستقلة من دون تمثيل لأحزاب السلطة فيها، ولكن انبثاق مثل هذه الحكومة غير ممكن، لأن دستور ما بعد الطائف، أعطى لمجلس الوزراء مجتمعاً السلطة السياسية، التي كانت في يد رئيس الجمهورية قبل الطائف، إذ كان هو يسمي رئيسها وأعضاءها، أما في لبنان ما بعد الطائف، فإن السلطة السياسية في البلاد باتت في مجلس الوزراء الذي يتشكّل من الكتل البرلمانية، وفق أحجامها. وبالتالي فإن عضوية مجلس الوزراء هي منصب سياسي بحت، لا يمكن عزله عن الطبقة السياسية الحاكمة بموجب الإرادة الشعبية في الانتخابات.
هذا إلى جانب الأعراف التي نشأت حول تقاسم «الوزارات السيادية» بين الطوائف الأساسية، (المارونية والسّنّية والشيعية والأرثوذكسية)، وهو ما لم يكن يمارس قبل الحرب الأهلية، والمساس بهذه الأعراف لن يكون أمراً سهلاً في ظل التركيبة السياسية الحالية.
فدستور الطائف الذي نصّ على تشكيل هيئة وطنية لإلغاء الطائفية، انتقل بلبنان من الطائفية السياسية إلى المذهبية السياسية، وهما سبب علّته، كما قال رئيس الجمهورية الذي دعا إلى قيام «دولة مدنية»، ومثله أعلن الرئيس نبيه برّي، وقبلهما قوى وأحزاب سياسية، حيث لا يختلف اثنان على أن النظام الطائفي هو الذي يقف وراء أزمات لبنان، من استشراء الفساد والمحاصصة وتقاسم المكاسب وانتهاك القانون.
الحراك إلى أين؟
لقد أنجز الحراك الشعبي بعض مطالبه باستقالة الحكومة وفتح ملفات الفساد، لكن أهم ما أنجزه هو تعزيز وعي المواطنين حول العديد من القضايا والقوانين في مشهد غير مسبوق في تاريخ لبنان، أقلّه بعد 30 عاماً من اتفاق الطائف وانتهاء الحرب الأهلية.
وإذا فشل الحراك حتى الآن بتحديد مطالب واقعية وعملية، فإنه بلا شك أكد وجود رفض شعبي متزايد للطبقة السياسية الحاكمة، وبينما خرج المواطنون يسائلون الحكومة مطالبين بإسقاطها كان الأجدى بهم أيضاً الضغط على ممثليهم في مجلس النواب الذي فقد فعاليته الرقابية منذ عقود. ولعل مطالبة الحراك بإجراء انتخابات نيابية مبكرة، قد تكون هي الفرصة الحقيقية للتغيير السلمي وإلا فعلى اللبنانيين أن يثوروا ضد قواعد اللعبة السياسية المنصوص عليها في الدستور الذي أقره اتفاق الطائف.
Leave a Reply