عاد النزوح السوري ليلقي بأعبائه على لبنان، ويثقله بأزمات اقتصادية واجتماعية وحوادث أمنية وقلق ديمغرافي من خطر التوطين، كما من اللعب بالتركيبة المجتمعية والسياسية اللبنانية.
فالمليون ونصف مليون نازح سوري المسجلين لدى الأمم المتحدة، لم يعودوا حالة إنسانية تمّ التعاطف معهم مع بدء الأزمة السورية، التي انفجرت قبل ست سنوات، وهي مستمرة إلى أجل غير مسمى، بل بات ما يشكّله النازحون من سوريا، أكثر من ثلث الشعب اللبناني، حيث يبلغ عددهم في بعض المدن والبلدات المكتظة بهم ثلاثة وأحياناً أربعة أضعاف السكان الأصليين، كما في عرسال مثلاً إذ أن عديد النازحين هو 120 ألفاً، وأبناء عرسال لا يتجاوزون الـ35 ألفاً، وهم استقبلوهم مع بدء الأحداث الأمنية في سوريا، ليتحوّلوا إلى محتلين للبلدة الحدودية عند السلسلة الشرقية لجبال لبنان، وباتت منطقة عسكرية، وخاضعة في بعض أحيائها ومراكز المخيمات للنازحين وجرودها، إلى سلطة تنظيمي «داعش» و«النصرة» فيصدر أمراؤها فتاوى بالقتل، حيث سقط من أهالي عرسال حوالي 25 مواطناً برصاص الإرهابيين التكفيريين، الذين هم في مواجهة دائمة مع مراكز الجيش اللبناني منذ العام 2014، عندما قامت عصابات مسلحة منهم بمهاجمة مواقع الجيش الذي سقط منه نحو عشرين شهيداً وعشرات الجرحى، وتسعة مخطوفين لدى «داعش».
صمود سوري
يتحمل فريق سياسي لبناني هو من تكوين «14 آذار»، هذا التساهل في توافد النازحين السوريين، ومنهم مَن لا ينطبق عليه صفة نازح، إذ يسافر إلى سوريا ويعود منها إلى لبنان، من أجل الاستفادة من تقديمات الأمم المتحدة.
رفض هذا الفريق أن يعود النازحون إلى مناطق آمنة في سوريا، بذريعة حمايتهم من النظام الذي سيقتلهم، وكان مع تأجيج الحرب على سوريا منذ بداية الأحداث في آذار 2011 وبدايات ما سمي «ربيع عربي». فتوقع السياسيون أن يسقط الرئيس بشار الأسد، في غضون أسابيع، كما حصل في تونس ثمّ مصر وليبيا، ليخيب ظنّهم ويصمد الرئيس السوري، الذي تحولت الكثير من المواقف الداعية لإسقاطه إلى المطالبة ببقائه، بعد أن تأكّد أنه يواجه إرهاباً منظماً ومشروعاً سياسياً لتغيير مستقبل المنطقة واجهته «الإخوان المسلمين» قبل سقوطهم في مصر وتونس، واستمرار الحرب معهم في كل من اليمن وليبيا وسوريا.
ومع صمود النظام السوري، وتدفّق النازحين إلى لبنان –كما دول الجوار مثل الأردن وتركيا، ولجوء بعضهم إلى دول أوروبية– فإن النظرة اللبنانية إلى النازحين السوريين تأثرت عند أكثر من منعطف خلال أحداث السنوات الست الماضية، لاسيما بعد أن تبين أن من بينهم مَن يحمل فكراً تكفيرياً، وقام بأعمال إرهابية إذ تكشف القوى الأمنية في لبنان عشرات لا بل مئات من المنتمين إلى «داعش» و«النصرة» وتمّ اعتقالهم، لكن الحكومة اللبنانية برئاسة نجيب ميقاتي اتّخذت قراراً برفض تسليم أي شخص يخل بالأمن إلى السلطات السورية، لأن فريقاً من «14 آذار» بقيادة «المستقبل» أو «الحزب التقدمي الاشتراكي»، كانا يعتبران هؤلاء «ثواراً»، وقد دفعهم النظام إلى أن يصبحوا إرهابيين، كما أن رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع كان يدّعي أن التكفيريين هم من انتاج النظام السوري، ولم يقبل النائب وليد جنبلاط، أن يُمسّ أحدهم بأذى.
إزالة الغطاء
هكذا غطى فريق سياسي لبناني النزوح السوري في لبنان حتى بات اليوم يعلن أن هذا النزوح يشكّل خطراً على لبنان، وهو لم يلتفت إلى التحذيرات التي كانت تنبّه من الأزمة الكبرى التي سيتسبب بها، وأول مَن أطلق ناقوس الخطر، كان الوزير جبران باسيل الذي طالب بوقف تدفقهم وتنظيمهم فاتّهم بـ«العنصرية»، كما دعا لإعادتهم إلى المناطق الآمنة في سوريا، لكنه جوبه بالرفض، لاسيما من «تيار المستقبل» الذي تعامل مع النازحين كـ«احتياط بشري» له في أي مواجهة مع «حزب الله»، واحتضنتهم مناطق ذات الغالبية السّنّية، من منطلق مذهبي، وهذا هو الواقع، وقد لعبت «الجماعة الإسلامية» وجمعيات إسلامية سلفية وغيرها، دوراً في احتضان هؤلاء، بالرغم من مناطق لبنانية أخرى استقبلت النازحين السوريين دون النظر إلى مذهبهم أو طائفتهم.
فأمام هذا الكم الكبير من النازحين السوريين الذين لا قدرة للبنان على تحمّلهم جغرافياً وديمغرافياً واقتصادياً، فإن رئيس الحكومة سعد الحريري ذهب إلى بروكسل وتحدث أمام المؤتمر الذي انعقد تحت عنوان دعم مستقبل سوريا والمنطقة ووضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، لمساعدة لبنان في هذا العبء الكبير، بعد أن تخلّت الدول المانحة عن تأمين الدعم المالي، وانكفأت عن التزاماتها، إذ اعترفت الدول في كل المؤتمرات التي عقدتها في أكثر من عاصمة عربية ودولية لا سيما الكويت ولندن، بحق لبنان بمساعدات مالية بعشرات مليارات الدولارات، لكنه لم يستوفِ منها سوى ملياري دولار، وهو ما كان يبلغه المسؤولون اللبنانيون إلى المراجع الدولية ومبعوثيها، لكن دون جدوى.
بنى تحتية متهالكة
فلبنان بحاجة إلى 12 مليار دولار لبناه التحتية، خلال السنوات الخمس أو السبع المقبلة، والتي باتت في وضع سيء جداً، ويلزم توسيعها وتأهيلها، إذ يستهلك النازحون السوريون 450 ميغاواط من الكهرباء، مما يحرم اللبنانيين من خمس ساعات من التغذية منها، وهم أصلاً يعيشون منذ عقدين وأكثر من الزمن على التقنين في الكهرباء وانقطاعها بسبب عدم تأهيل معامل إنتاج للكهرباء التي ترهق الخزينة سنوياً بحوالي ملياري دولار، ويكلّف النزوح السوري 350 مليون دولار سنوياً كمبلغ إضافي، لموازنة فيها عجز يقدّر بـ6 مليارات دولار لعام 2017.
أزمة جيل
وإلى جانب أزمة الكهرباء التي تعمّقت مع النزوح السوري، فإن المدارس الرسمية تستوعب 200 ألف منهم، بتمويل من الأمم المتحدة لكن دون المبلغ المطلوب، ويبقى حوالي 250 ألفاً خارج المدارس لعدم استيعابها لهم، وهو ما يدفع بهؤلاء إلى أن يكونوا أطفال شوارع، ويتحوّلون إلى الرذيلة واللجوء إلى السرقات والمخدرات، في وقت تمّ تسجيل حوالي 150 ألف ولادة لأطفال سوريين في لبنان منذ النزوح، الكثير منهم بلا قيود رسمية، وهذا سيتسبب بمشاكل في القريب العاجل.
التنافس على الوظائف
ولكن الأخطر مما يعكسه النزوح السوري، هو مزاحمة اللبنانيين على فرص العمل، التي كانوا يشتغلون فيها، وأكثر ما تظهر الشكوى من أصحاب مهن حرة، ومن فتح مطاعم ومحلات تجارية أو استخدام عمال وعاملات من الجنسية السورية، كرخص لليد العاملة، حارمين لبنانيين منها، ومخالفين لقانون العمل اللبناني الذي تجهد وزارة العمل لتطبيقه.
اضطرابات اجتماعية
وهذه الأزمات التي يسببها النزوح السوري، بدأت تخلق اضطرابات اجتماعية، كما أعلن الرئيس الحريري عشية سفره إلى بروكسل، وهذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها عن هذا الموضوع، الذي يعبّر عن حالة احتقان شعبية بين اللبنانيين تجاه النازحين السوريين، والنظر إليهم على أنهم «يسرقون لقمة عيشهم»، إضافة إلى جرائم عدة حصلت في مناطق مختلفة من لبنان كان السوريون وراءها، مما رفع من حدة التحريض عليهم، وفي بعض الأحيان إلى الاشتباك بالأيدي، واستخدام السلاح، وحرق أكواخ أو منازل لسوريين، وطردهم من بعض البلدات، أو منع تجولهم فيها ليلاً وفق أوقات محددة.
شبح التوطين
وكشف رئيس الحكومة عن أن رؤساء بلديات زاروه، وأبلغوه إعطاء الحكومة الإذن لهم لترحيل السوريين من مناطقهم، وهو ما رفضه الرئيس الحريري، الذي في الوقت نفسه تهيب الوضع الذي بات ينذر بهز الاستقرار الأمني في لبنان، إذ ثمة مناطق بات السوريون يتسلحون فيها، وفي غالبيتهم مدربون عسكرياً لخدمتهم في الجيش السوري، أو قتالهم مع مجموعات إرهابية.
وبات اللبنانيون يتذكرون النزوح الفلسطيني في العام 1948 قسراً عن مدنهم وبلداتهم في فلسطين التي احتلتها العصابات الصهيونية، وأن لجوءهم إلى لبنان كما دول جوار أخرى هو مؤقت وسيعودون إلى ديارهم، لكن مضى على قضيتهم 70 عاماً، ويُطرح توطينهم في أماكن لجوئهم، ورفض حق العودة لهم التي منحها لهم القرار 194 الصادر عن الأمم المتحدة، وهو ما يتخوّف اللبنانيون من أن يكون النازحون السوريون نسخة طبق الأصل عن اللاجئين الفلسطينيين، حيث مشروع توطين السوريين مطروحة، وأعلن الوزير باسيل ذلك، وهو تصدى لهذا المشروع، تحت عنوان العودة الطوعية للنازحين السوريين، ودعوته للعودة الآمنة.
فهل اقتنع الحريري ومَن معه من فريقه السياسي، بأن النزوح السوري الذي تساهلوا معه، بات قنبلة موقوتة في لبنان، ستنفجر في وقت ما، إذا لم يتم تفكيك صاعقها، الذي يكون ليس بطلب المساعدات المالية على أهميتها، بل بوضع خطة لعودة النازحين، التي لا تشبه عودة الفلسطينيين، لأن الدولة السورية موجودة وفيها جيش ومؤسسات، ولا ينقص لبنان سوى قرار جريء تأخذه الحكومة بالتفاوض مع الحكومة السورية لعودة طوعية إلى أماكن آمنة في سوريا، فهل يفعلها الحريري؟
Leave a Reply