مبادرة خليجية بشروط تعجيزية لحلحلة الأزمة اللبنانية
وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
حدثان بارزان تصدّرا الساحة السياسية في لبنان، خرقا رتابة أيام اللبنانيين التي اقتصرت في الآونة الأخيرة على متابعة ارتفاع الدولار والانقطاع شبه الكامل للكهرباء وفقدان الأدوية والكثير من المواد الاستهلاكية فضلاً عن الخضات الأمنية المتنقلة.
الحدث الأول تمثل في زيارة وزير الخارجية الكويتي أحمد ناصر المحمد الصباح لبيروت في أول خرق عربي لجدار الأزمة التي افتعلتها السعودية مع لبنان على خلفية تصريحات وزير الإعلام المستقيل جورج قرداحي بشأن حرب اليمن، حاملاً معه ما سمّاه «مبادرة» لإنقاذ لبنان، لكنها في واقع الأمر أشبه بسلة متكاملة من الشروط والإملاءات التي يجب على لبنان الخضوع لها وإلا فلا إنقاذ ولا مساعدات ولا حتى عودة للعلاقات.
أما الحدث الثاني فتمثل بإعلان رئيس الحكومة السابق سعد الحريري اعتزاله العمل السياسي وعدم مشاركته هو وأي من أفراد عائلته أو تيار «المستقبل» في أي نشاط سياسي.
المبادرة «اللغم»
لم يكن يتوقع اللبنانيون من دولة الكويت أن تكون ساعي بريد لدى ولي العهد السعودي وتنقل إليهم تهديداته وشروطه، وهم الذين كان يرون فيها كما كل العرب رمزاً للاعتدال والوسطية، ووسيطاً دائماً بين الأشقاء العرب في عهد الأمير الراحل صباح الأحمد الصباح، لكن –في المقلب الآخر– ثمة حاجة كويتية إلى تفادي غضب ابن سلمان وهو المعروف بتغليب العلاقات الشخصية في كل تعاملاته الرسمية، فالكويت، تشهد مرحلة حرجة يشوبها شيء من عدم الاستقرار، إثر وفاة الأمير الراحل، وليس من مصلحتها استعداء الرياض بشخص أميرها، ولا تزال تجربة «قطر وتميمها» ماثلة أمامها.
فقد وصل وزير الخارجية الكويتي إلى بيروت يوم الأحد الفائت، حاملاً معه ورقة من 12 بنداً رأى فيها البعض فرصة لإعادة لبنان إلى الحضن العربي وانتشاله من الانهيار. فيما رأى البعض الآخر فيها لائحة شروط وإملاءات تنطوي على رسالة واضحة مؤداها: أنتم أيها اللبنانيون في حالة احتضار والترياق الذي يعيدكم إلى الحياة في أيدينا! لكن عليكم الخضوع لشروطنا أولاً!
شروط هي في جوهرها مطالب تعجيزية سبق أن طُلب من لبنان تنفيذها في أكثر من مناسبة، لكن اللبنانيين كانوا على قدر من الوعي دفعهم إلى رفضها، ومنها تطبيق القرارين 1559 و1701 لنزع سلاح المقاومة مع ما يعنيه ذلك من استباحة للأراضي اللبنانية أمام التهديدات والأطماع الإسرائيلية التي لم تتوقف منذ احتلال فلسطين.
انكسار السعودية المستمر في اليمن وغرقها في مستنقع الحرب فيه كما في سوريا مع حلفائها من العرب والغرب على حد سواء، ربما كانا دافعاً قوياً لتفعيل تدخلها بقوة على ساحة الأزمة اللبنانية –وهي التي لم تغب عنها يوماً– لحصد بعض من المكاسب على أمل استعادة شيء من سمعتها التي تمرّغت بالوحل من جراء المجازر التي ترتكب يومياً في اليمن، وغير ذلك الكثير.
الرد اللبناني
مصادر القصر الجمهوري نقلت تحفظ الرئيس ميشال عون على البند المتعلق بالقرار 1559، ولفتت إلى أن قضية سلاح «حزب الله» ودوره الإقليمي أمر بات مسألة إقليمية ودولية ولا يخص لبنان وحده، وعلى العرب والعالم تفهّم هذا الأمر. كما أكد الرئيس عون حرص لبنان على أفضل العلاقات مع العرب والعالم أجمع، ووعد ضيفه الكويتي برد موحد.
ويُنتظر انعقاد اجتماع تشاوري بين الرؤساء الثلاثة للبحث في الرسالة الخليجية، في وقت يحكى فيه عن مسوّدة أعدها الرئيس نجيب ميقاتي، يقال إنها مقبولة إلى حد ما لدى الأوساط الرئاسية، وتقوم على قاعدة الترحيب بعودة الخليج إلى لبنان وتأكيد الالتزام بالقرارات الأممية والعربية واحترام العلاقة مع الخليج، إضافة إلى تأكيد الالتزام باتفاق الطائف وإجراء الانتخابات النيابية في موعدها وتنفيذ الإصلاحات والحوار مع الهيئات الدولية المانحة، كذلك تتضمن المسودة دعوة ميقاتي إلى تشكيل لجان حوار بشأن الملفات العالقة، قاصداً بطبيعة الحال ملف «حزب الله» وسلاحه وكل ما يتعلق به.
من خلال هذه الصيغة يحاول ميقاتي امتصاص كل التشنج الحاصل ويعيد لبنان إلى الحضن العربي، فهو من خلال ذلك قد قبل «المبادرة» دون أن يدخل في مواجهة مباشرة مع «حزب الله» وحلفائه.
وزير الخارجية عبدالله بو حبيب أعد بدوره مسودة رد عرضَها على رئيسي الجمهورية والحكومة على أن يعرضها لاحقاً على رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي كان قد أبلغ الوزير الكويتي بأن القرار 1559 تم تنفيذه مع الانسحاب السوري وأن سرائيل هي التي لم تنسحب من الأراضي اللبنانية التي لا تزال محتلة ما يستلزم بقاء سلاح المقاومة.
رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل اعتبر أن الورقة الكويتية تتوافق مع الحوار الذي دعا إليه رئيس الجمهورية، عون، لكن يجب أن يحصل تفاهم على بعض الأمور «كي لا يخلق الأمر مشكلاً داخلياً»، كما أشار إلى أنّ هناك ضغوطاً خارجية تُمارَس على الداخل اللبناني لانتهاج سياسة نتيجتها الحتمية انفجار داخلي.
أما «حزب الله»، المعني الأول بورقة الشروط الخليجية، فسجل رفضه القاطع لها ورأى فيها تدخلاً سافراً في الشأن اللبناني.
ومن المقرر أن يرد لبنان رسمياً على الورقة الخليجة أواخر الشهر الحالي خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب في الكويت.
يشار إلى أن الورقة الخليجية تتضمن 12 بنداً في مقدمتها تطبيق القرارين 1559 و1701 والتقيد باتفاق الطائف بكل مندرجاته وتمكين اللبنانيين من استرداد ودائعهم المصرفية، إضافة إلى بنود أخرى كمراقبة الصادرات إلى دول الخليج ووقف أنشطة الجماعات المعادية لتلك الدول، ومنع التحريض وأي نوع من الاعتداء اللفظي عليها، وتنفيذ الإصلاحات المطلوبة والالتزام بقرارات المجتمع الدولي والجامعة العربية.
اعتزال الحريري
الحدث الثاني والذي لا تزال أصداؤه تتردد، هو إعلان رئيس الحكومة السابق سعد الحريري مغادرة الحياة السياسية نهائياً، مختصِراً الأسباب بجملة: أنهُوني لأنني رفضت الخوض في حرب أهلية!
اللبنانيون كافة يتذكرون كيف اعتُقل الحريري في الرياض عام 2017 ثم أُجبر على الاستقالة تلفزيونياً، بعدما تعرّض له من اعتداء لفظي ومعنوي وحتى جسدي، واستمر التضييق السعودي عليه منذ ذلك الوقت إلى أن بلغ الأمر حد عزله نهائياً، ومنعه من المشاركة في أي نشاط سياسي هو وجميع أفراد أسرته وصولاً إلى كل من يمت إليه بصلة من «تيار المستقبل» وخارجه!
فقد قرّر محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، إنهاء «الحريرية السياسية» وإقفال «بيت الحريري» الذي لم يرضَ الخوض في دماء أبناء وطنه. فاللبنانيون جميعاً متقفون هذه الأيام على أن الحريري الابن يدفع ثمناً باهظاً لقاء خيار وطني بامتياز، سيُحسب له على مدى الأجيال المقبلة وهو رفض الاقتتال الداخلي ولا سيما الاقتتال السني–الشيعي.
الساحة السنية على المستوى الشعبي رفضت قرار الحريري وشهدت شوارع بيروت احتجاجات واسعة تخللتها هتافات ضد السعودية وولي عهدها وشتائم من العيار الثقيل وقطع للطرقات تعبيراً عن هذا الرفض. غير أن أن البعض قرأ في قرار الحريري محاولةً لشد العصب في الشارع السني، في حركة مشابهة لتلك التي قام بها زعيم التيار الصدري في العراق، الذي أكد في غير مناسبة عزوفه عن المشاركة في الانتخابات ثم تراجع قبل أسابيع من بدء الحملات الانتخابية في خطوة مدروسة وممنهجة كان الهدف منها الإيحاء بأن العودة كانت تلبية للمطلب الشعبي!
وتوالت ردود الفعل على قرار الحريري الذي أنهى خطابه دامعاً، موجّهاً الشكر إلى كل الذين دعموه خلال حياته السياسية، والذي مثّل سابقة في الحياة السياسية اللبنانية.
ونقلت مصادر الرئيس بري عنه قوله إن الحريري صديق كبير للرئيس بري وهو رمز للاعتدال الإسلامي وخروجه من الحياة السياسية ستكون له تداعيات كبيرة وفراغ لا يمكن لأحد غيره أن يملأه وهو أمر محزن.
أما الرئيس ميقاتي فقال إن كلام الحريري صفحة حزينة للوطن وله شخصياً، معرباً عن تفهمه للظروف المؤلمة والمرارة التي يعيشها.
من جانبه، غرّد رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي»، وليد جنبلاط، معلقاً: «تيتّم الوطن والمختارة حزينة وحيدة».
مسيحياً، تمنى رئيس «التيار الوطني الحر»، جبران باسيل زوال الظروف التي أمْلَت موقف الحريري، لافتاً إلى أن اعتكافه يزيد الفراغ والتطرّف.
أما رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، الساعي لوراثة الحريري سياسياً، فقال: «على الرغم من التباينات التي اعترت العلاقة مع الحريري إلا أنني لا أستطيع في هذه اللحظات إلا أن أبدي تعاطفي الشخصي مع الشيخ سعد».
Leave a Reply