للمرة الثانية، يحرق شخص تونسي نفسه! فقد نقلت وسائل الإعلام أن رجلا عاطلا عن العمل، يبلغ من العمر 48 عاما، وأب لثلاثة أطفال، قام بإحراق نفسه أمام مقر محافظة قفصة حين رفض وفد من الوزراء طلب مقابلته، بينما كانوا يقومون بزيارة للمنطقة التي ترتفع فيها نسبة البطالة.
من غير المنتظر، بالطبع، أن تندلع ثورة ثانية في تونس بإلهام من هذه الحادثة، كما حصل في المرة الأولى، مع محمد البوعزيزي. ورغم الألم الذي تتركه الحادثة في النفس، إلا أنها تبقى حادثة فردية منعزلة، لن ترقى إلى اللحظة التاريخية التي واتت البوعزيزي، لدرجة أن وسائل الإعلام لم تنقل إسم الرجل. هكذا هي الأمور.. فهناك دائما البعض الذي يفكر بإعادة اختراع الدولاب، كما أنه هناك دائما من يحاول تقليد الثائر تشي غيفارا (بارتداء القبعة، فقط لا غير).
كان اختراع النار منعطفا حاسما في تاريخ البشر، وحصل هذا قبل عشرة آلاف سنة على الأقل، ومن يومها يستطيع الإنسان إشعال النار في أية لحظة بعدة وسائل (يبقى “عود الثقاب” أكثرها رومانسية وملاءمة للكتابات الإنشائية)، ولكن لا أحد يعرف طعم الدهشة التي تذوقها مشعل النار الأول. ولاشك أن بشرا كثيرين قاموا بإحراق أنفسهم غضبا أو احتجاجا أو انتحارا، إلا أن ما قام به البوعزيزي كان أمرا من نوع آخر. من نوع يشبه ذلك التذوق الأول للنار الأولى، لذلك كانت لألسنة اللهب التي التهمت جسده تلك القدسية وتلك الطاقة السحرية التي انتقلت إلى ألسنة المواطنين الذين طفح كيل انتظارهم لفرج الله.
انتقلت الشرارة الثورية إلى مصر وليبيا وسوريا واليمن والبحرين بدون أن يقوم مواطنون مصريون وليبيون وسوريون ويمنيون وبحرينيون بإحراق أنفسهم، ذلك أن حريق البوعزيزي جاء في الوقت المناسب، فبعد عقود وعقود من الشعارات الرنانة التي أطلقتها الأنظمة الثورية حول “الرجل المناسب في المكان المناسب” تحولت الأمور إلى حقيقة “البوعزيزي المناسب يحرق نفسه في المكان المناسب” وكل ذلك بسبب أن تلك الأنظمة كانت تقوم دائما عن قصد ونكاية واستهتار بوضع “الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب”.
يعني هذا، في جملة ما يعني، أن ما قام به بائع الخضرة التونسي جاء في لحظة حقيقية تعبر عن انسداد الأفق، وعن حالة من “الاستاتيكوات” الوطنية العابرة للعروش والمؤسسات والبنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ليست مجرد صدفة أن يكون محمد البوعزيزي بائع خضار يكسب قوت يومه بشق النفس، كانت إشارة عن “انقراض” ذلك الطراز من المثقفين العضويين والسياسيين المناضلين بعدما تحولت الأوطان العربية إلى بازارات وأسواق ومكاتب للمقاولة..
كانت لحظة أشعلت الزمن. كانت أشبه بتصفير العداد. ولكن البعض لا يريد إلا أن يعيش خارج الزمن، أو في السابق، على اعتبار أن الماضي أفضل من الحاضر. ولكن النكتة (والتي تكون سوداء في بعض الأحيان) أن الزمن يجري ويمر بالرغم من إرادة الجميع.. ويقهر الجميع!
وصحيح أن التاريخ يكرر نفسه، لكن الزمن لا يفعل، فما من لحظة تعود مرة أخرى. بمعنى أن “لحظة” محمد البوعزيزي لن تعود ثانية أبدا، وبالتالي لا معنى لأن يكون أي شخص بإحراق نفسه. لأن هذا سيكون تقليدا مهما بلغت مرارته. شيئا يشبه ارتداء قبعة تشي غيفارا تشبها بذلك الثائر الأرجنيتي ولا شيء أكثر. الملايين في العالم (العربي) مولعون بارتداء تلك القبعة أو القمصان التي صورة تشي غيفارا، ولكنهم لم يتقنوا طوال عقود أكثر من الثرثرة وارتياد المقاهي والاستماع إلى أغاني مارسيل خليفة وزياد الرحباني ومخلفات الحقبة الشيوعية..
البوعزيزي غير قابل للتقليد، ومن لديه شيء يريد قوله فليتخير الطريقة الصحيحة والحقيقية، والأهم.. أن يعرف كيف يصطاد “اللحظة” بكل تاريخيتها وحساسيتها..
تذكر بعض الروايات التاريخية أن العرب في الجاهلية كانوا على علم بأن النبوة ستنزل على شخص يدعى محمداً سيكون له حكم العرب، لذلك أطلق بعض الأعراب إسم “محمد” على أبنائهم لكي يفوزوا بتلك المكانة. لكن الأقدار شاءت.. أن يُصطفى محمد.. البوعزيزي!
Leave a Reply