كمال ذبيان – «صدى الوطن»
يفخر الرئيس نبيه برّي، بأن لبنان يمتاز بالحوار بين قواه السياسية، وقد جاهر بذلك فـي رومانيا وجنيف، أثناء زيارته لهما على رأس وفد برلماني، هو يدير طاولة للحوار فـي مجلس النواب، بدأ فـيها مطلع عام 2006، ثمّ أكملها بعده رئيس الجمهورية ميشال سليمان، ليعيد افتتاحها قبل أشهر، بين أبرز الكتل النيابية، كما أنه يرعى حواراً بين «حزب الله» و«تيار المستقبل» منذ حوالي العام، بمقره فـي عين التينة، وكل ذلك من أجل تخفـيف الإحتقان الداخلي، وخفض سقف الخطاب السياسي، باعتماد العقلانية وعدم استخدام الغرائز لمنع انزلاق اللبنانيين الى فتنة سنّية-شيعية تعصف بالمنطقة من العراق الى اليمن والبحرين وسوريا وبعض مناطق السعودية، وتمتد الى باكستان وأفغانستان، ويتأثر بها لبنان، كما دول أخرى.
والحوار الذي يتحدث عنه برّي خيار وممر إلزامي للبنانيين، لأن البديل عنه، هو الإقتتال فـيما بينهم، إذا ما دخلت على الأسباب الداخلية، التي تتعلق بالسلطة وببناء الدولة، عوامل خارجية، يكون لها دور أساسي فـي تفجير أزمات وحروب داخلية، واستغلال التناقضات الداخلية.
وبينما كان رئيس مجلس النواب يشيد بالحوار فـي لبنان، خرج وزير الداخلية نهاد المشنوق، لينعي الحوار، ويهدد بالخروج من الحكومة، وكان موقفه مفاجئاً وفـي توقيت لم يكن صدفة، وهو ما فاجأ راعي الحوار الرئيس برّي الذي صدمه كلام المشنوق الذي يُنظر إليه على أنه المعتدل بين الصقور فـي «تيار المستقبل»، وأنه إنفتح على «حزب الله» أمنياً، وأشرك مع بداية عهده رئيس لجنة الإرتباط فـي الحزب وفـيق صفا، باجتماع أمني رسمي ترأسه فـي وزارة الداخلية، ووزّع صورة الإجتماع وفـيها ظهر جالساً الى جانب كبار الضباط الأمنيين، مما أثار حفـيظة زملائه فـي «كتلة المستقبل» النيابية، ورفاقه فـي قوى «14 آذار»، أنه يقدّم تنازلات لـ«حزب الله» ويعترف به «دولة ضمن الدولة»، ويقر بوجود سلاحه فـي الداخل، وينسّق معه أمنياً، وهو لا يتساوى مع منطق الدولة، وفرض «الأمن بالتراضي».
هذه الحملة من حلفاء المشنوق، تركته «يفرمل» تحركه، الى أن جاء اقتراح الرئيس برّي بالحوار بين «المستقبل» و«حزب الله»، فرآها وزير الداخلية فرصة لطرح الوضع الأمني فـي بيروت والضاحية الجنوبية والبقاع لاسيما بعلبك-الهرمل، على طاولة الحوار، طالما أن العنوان الأساسي له، هو الحفاظ على الأمن والإستقرار، بعد ربط النزاع مع «حزب الله» الذي أعلن عنه الرئيس سعد الحريري من أمام المحكمة الدولية فـي لاهاي التي تتابع قضية اغتيال والده رفـيق الحريري، والمتّهم فـيها خمسة عناصر من «حزب الله» لكنه قرّر ترك المحكمة تقوم بعملها، ووافق على مشاركة الحزب فـي حكومة يترأسها تمام سلام، بعد أن تعثّرت ولادتها لنحو سنة، فتنازل رئيس «تيار المستقبل» لصالح تشكيل حكومة سيكون القرار فـيها له ولحلفائه، وقبل أن يتمثّل «حزب الله» فـي الحكومة، ولو كان يشارك فـي القتال الى جانب النظام السوري، فرضخ للأمر الواقع، بعد أن حصل توافق دولي-إقليمي على ولادة الحكومة لمرحلة إنتقالية، تؤمن الإستقرار، يتم خلالها إنتخاب رئيس للجمهورية، ليعود الحريري الى لبنان ويترأس حكومة مع عهد رئاسي جديد.
لكن الإنتخابات الرئاسية لم تقم، وحصل شغور فـي رئاسة الجمهورية، فاضطرت الحكومة إلى أن تقوم مقامها وتمارس صلاحياتها لفترة وجيزة، لكنها طالت لعام ونصف العام، تعثّر فـيها عمل الحكومة، لا بل شُلّ فـي بعض المراحل، وتمّ تعليق جلسات مجلس الوزراء، فـي أكثر المراحل، وباتت الحكومة تعمل ولو غير مستقيلة، كأنها حكومة تصريف الأعمال، ومَن يمنع استقالة رئيسها تمام سلام، أو أعضاء منها، هو قرار دولي-إقليمي، أن تبقى الحكومة كمؤسسة دستورية تملأ فراغاً، وتقوم بتسيير شؤون الدولة والمواطنين، بالحد الأدنى المطلوب، إلا أن الخلاف حول آلية عملها، ثمّ وقف التعيينات لاسيما منها الأمنية والعسكرية شلّها، حيث لم ينفع الحوار بين «تيار المستقبل» و«حزب الله» على التوافق حول رئيس الجمهورية، لأن «حزب الله» تمسّك بترشيح العماد ميشال عون، وأسقط من جعبته مرشح التسوية رافضاً تكرار تجربة ميشال سليمان الذي يعتبره الحزب أنه انقلب على خياراته، ووصف ثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة» بـ«المعادلة الخشبية»، مما أغضب منه «حزب الله» وحلفاؤه، كما أن موقفه من النظام فـي سوريا واصطفافه الى جانب خصومه فـي دول الخليج وأميركا وفرنسا، أفقده صدقيته كما يقول خصومه الذين يقولون إنه لم يصل الى قيادة الجيش لولا الرئيس بشار الأسد والقيادة السورية، ومنها عبر الى رئاسة الجمهورية بتأييد سوري، لكنه انقلب على مَن كان يعتبره صديقاً، لذلك يقف «حزب الله» رافضاً إنتخاب رئيس للجمهورية فـي موقع الوسط، وهي التجربة نفسها التي عاشها مع نجيب ميقاتي فـي رئاسة الحكومة، بعد الإطاحة بالرئيس سعد الحريري، حيث خدم «14 آذار» أكثر من الحريري نفسه.
من هنا، فإن الحكومة التي يهدد المشنوق بالإستقالة منها هي حكومة «14 آذار»، وهي التي ستخسر حتى ولو كانت مشلولة، كما أن الإنقطاع عن الحوار مع «حزب الله»، لا يستفـيد منه «تيار المستقبل» الذي يضره أي إنفلات أمني، سيكون لصالح نمو التيارات والقوى الإسلامية المتشددة على الساحة السنّيّة، إذا ما صعّد «تيار المستقبل» خطابه ضد «حزب الله»، وهو الذي يعاني من أزمة مالية، كما من تعدد القيادة فـيه، مع وجود سعد الحريري فـي الخارج منذ حوالي خمس سنوات، فإنكفاء جمهور المستقبل ومحازبيه، وهو يلمسه نوابه فـي مناطقهم، إذ يتمّ تحميلهم من قبل المواطنين أزمة النفايات، كما انقطاع الكهرباء وشح المياه، وارتفاع نسبة الفقر بالإضافة إلى البطالة، لأن «الحريرية السياسية» هي التي تُمسك بالبلد سياسياً واقتصادياً، وذهبت به الى 75 مليار دولار دين وفائدة سنوية بحوالي خمسة مليارات دولار ترهق الخزينة، ويدفعها المواطن رسوماً وضرائب لا يأخذ ثمنها خدمات إنمائية واقتصاد منتج وتوفـير فرص عمل وقيام بنى تحتية.
فما طرجه المشنوق من تهديد باستقالته من الحكومة والخروج من الحوار، جاءه الرد سريعاً ومباشراً من الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، الذي رفض ابتزاز وزير الداخلية، ومَن يقف وراءه، ودعاه الى ترك الحكومة ووقف الحوار ودون تردد، لأن وجود الحزب فـيهما كان مكلفاً، ولا يفـيد الإستمرار فـي تغطية حكومة عاجزة عن معالجة موضوع النفايات، أو تقديم حلول لأزمات أخرى، كالكهرباء والمياه والسير والحد من الفقر والبطالة والهجرة.
ولم يكن كلام المشنوق من فراغ وعدم ربطه بتطورات المنطقة وتذرّع بعدم تنفـيذ الخطة الأمنية فـي البقاع لتلويحه بالخروج من الحكومة والحوار، بأنه يتلطّى بورقة تين، لأن المسألة أعمق من ذلك، فهي لا تتعلق بضبط الأمن وتطبيق القانون، وهي مسؤولية وزارة الداخلية التي لديها القرار السياسي بتنفـيذ الخطة الأمنية فـي البقاع، وسهّل «حزب الله» و«حركة أمل» كل الإمكانات لتقوم القوى الأمنية بمهامها، ولا يمنعها أي طرف سياسي وحزبي من ذلك بشهادة المشنوق نفسه الذي أشرف هو شخصياً قبل أشهر على تطبيق الخطة، كما تجوّل فـي الضاحية الجنوبية أيضاً، ويبقى الخلل فـي الأجهزة الأمنية التي تتراخى فـي تطبيق القانون، وهو ما يدركه المواطن، وكان آخرها تطبيق قانون السير الذي لم يرَ المواطنون له نتائج على الأرض، حيث لم تخف حوادث السير، ولا فـي تراجع عدد مخالفات السرعة، كما لم يتغيّر سلوك السائقين ويمتنع المخالفون منهم للقانون على تطبيقه، بل زاد عدد المخالفـين.
ولذلك فإن المسألة ليست خطة أمنية للبقاع، كان المشنوق تحدّث عنها فـي العام الماضي والمناسبة ذاتها، وهي ذكرى اغتيال رئيس شعبة المعلومات فـي قوى الأمن الداخلي اللواء وسام الحسن، ليكرّر وزير الداخلية، ومن على المنبر نفسه، مقولة عدم إلتزام «حزب الله» فـي المساعدة على تنفـيذ الخطة الأمنية التي لم يشعر المواطنون بها، حيث استمرت أعمال الخطف للمواطنين للمقايضة بفدية، وتواصلت سرقة السيارات، ولم تتوقف زراعة المخدرات والمتاجرة بها وتهريبها وترويجها، إضافة الى الظهور المسلّح وإطلاق النار وسقوط قتلى وجرحى.
فما دفع المشنوق الى الخطاب التصعيدي، هو ابتزاز «حزب الله» كما قال السيد نصرالله، ويريد منه الإنسحاب من دعمه لميشال عون فـي رئاسة الجمهورية، وعدم التضامن معه فـي الحكومة، لأنه من دون ذلك واستمرار تعطيل الحكومة، سيؤدي الى الإستقالة، والإمتناع عن تغطية مشاركة «حزب الله» فـي القتال الى جانب الرئيس بشار الأسد فـي سوريا، والأفضل رفع الغطاء الرسمي عنه، وكذلك وقف الحوار معه، لأنه فـي ظل هذا الحوار، تنشأ «سرايا للمقاومة» فـي المناطق ذات الكثافة السنّيّة، وكل عملها هو الإخلال بالأمن، يقول المشنوق الذي وفـي أول جلسة حوار مع «حزب الله» طلب «تيار المستقبل» «حل سرايا المقاومة» ووقف التمويل عن «سنّة 8 آذار»، إلا أن «حزب الله» رفض ذلك، وكاد الحوار أن ينهار لولا ضخ الرئيس برّي له بالأوكسيجين، وإقناعه طرفـيه أن البديل عنه، هو إنفراط عقد الحكومة، وفرط البلد، ودفعه نحو الإنفجار.
وهكذا تقف الحكومة المعطلة والمحروقة كما وصفها برّي، أمام مفترق استمرارها، والتي يهدد رئيسها بالإستقالة، وقد يُدفع إليها، إذا ما استمر انسداد أفق الحل للأزمات الداخلية، بدءاً من رئاسة الجمهورية التي باتت مرتبطة بأزمات المنطقة، وأن الوضع فـي سوريا وتطوراته يقرر مصيرها ومَن هو المرشح الذي سيفوز، وكذلك باتت الحرب فـي اليمن تفرض نفسها على الأزمة اللبنانية، وهو ما قاله نائب رئيس «تيار المستقبل» غطاس خوري، أن معركة صنعاء تقرر مصير الوضع فـي لبنان وحلول أزمته، وأن كلام المشنوق هو ترجمة للوضع فـي المنطقة، حيث احتد الصراع بين السعودية وإيران، وكل منهما يبحث عن وطأة قدم له، وموقع نفوذ، كما تفعل روسيا فـي سوريا، وأن لبنان هو فـي غمار صراع سعودي-إيراني كان توقف مع تشكيل هذه الحكومة، ليعود إلى التأزم، مع تطورات اليمن والدخول العسكري الروسي فـي سوريا الى جانب النظام، وقيام تحالف رباعي يضم روسيا وإيران والعراق وسوريا، ويضاف إليه «حزب الله» كمقاتل فـي سوريا، وله دوره فـي لبنان، حيث أقلق الدور الروسي فـي المنطقة السعودية التي رأت إنسحاباً أميركياً من الشرق الأوسط الى المحيط الهادئ، وبقيت هي وحلفاؤها وحيدة فـي المعركة بمواجهة إيران فـي سوريا والعراق واليمن والآن فـي لبنان تهديد المشنوق بفرط الحكومة ووقف الحوار، هو نتيجة لصراع النفوذ السعودي-الإيراني، وتصاعد التوتر بينهما، زادت منه حادثة تدافع الحجاج فـي المسجد الحرام ومقتل 463 حاجاً إيرانياً، لم تبرئ طهران الرياض المملكة، من فشلها فـي إدارة الحج ووقوع ضحايا سنوياً.
والمشنوق الذي هدّد باستقالة الحكومة لأسباب خارجية، فلم يتأخر السيد نصرالله بقبولها.
Leave a Reply