بعد تسعة أشهر على تكليف الرئيس تمام سلام، بات على «الأطباء» إخراج المولود في عملية قيصرية، لكنهم أمام خطر موت الأم، لبنان.
هذه المعادلة الطبية لعملية الولادة، هو ما ينطبق على تشكيل الحكومة، فكان على رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان وبالتشاور مع رئيس الحكومة المكلّف، أن يلجآ الى ولادة قيصرية للحكومة، لكنهما جوبها بأنها قد تؤدي الى «موت لبنان».
سلام |
وجاءت النصائح أن إنقاذ الأم أهم من المولود، لأن بنجاتها يمكن أن تنجب مولوداً آخراً. وهذا التشبيه الطبي، جرى التعامل معه حكومياً، لأن ولادة حكومة غير سياسية ومن دون توافق داخلي عليها، ستسبّب بموت لبنان الذي يعيش مخاضاً أمنياًَ صعباً، وشلل المؤسسات الدستورية التي يهدّدها الفراغ، الى الأزمات الإقتصادية والإجتماعية، وثقل النزوح السوري الديمغرافي والجغرافي والإقتصادي والإجتماعي وما سبّبه للبنان من أزمات، وقد باتت الأزمة السورية محور صراع داخلي، بدأ يأخذ في كثير من الأحيان طابعاً مذهبياً بإرتباطات خارجية.
فالوضع الأمني الذي فرض نفسه مع التفجيرين اللذين اختتم بهما اللبنانيون عامهم في وسط بيروت بإغتيال الوزير السابق محمد شطح، أو في وسط الضاحية في حارة حريك وقُتِل فيه مواطنون أبرياء، وأدخل لبنان في مرحلة خطيرة تشبه ما يجري في سوريا والعراق ودول أخرى، وقد ارتفع منسوب القلق عندما أعلن تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) مسؤوليته عن تفجير حارة حريك، وإعلان «كتائب عبدالله عزام» مسؤوليتها عن تفجير السفارة الإيرانية والتهديد بهجمات أخرى، في وقت أظهرت التحقيقات عن أن تفجيري الرويس وبئر العبد تقف وراءهما مجموعات أصولية تكفيرية، يديرها لبنانيون ويجنّدون لبنانيين لعمليات إنتحارية.
وكان لابدّ من مواجهة «العرقنة» في لبنان، وأن الحل السياسي الداخلي هو الذي يجب أن يتقدّم، لأن البديل عنه هو إنفجارات وإغتيالات مع إنفتاح الساحة اللبنانية على كل أشكال التدخل الخارجي، وتمركز عناصر تكفيرية ومنظمات جهادية فيها، مما زاد من منسوب خطر إندلاع حرب طائفية ومذهبية، ثمّ تأمين كل الظروف لها.
في هذه الأجواء الأمنية الضاغطة واستشعار أطراف لبنانية في «8» و«14 آذار» خطورتها، مع إنسداد أفق الحل السياسي الداخلي، وتمترس كل طرف عند شروطه من تشكيل الحكومة، وفقدان الثقة بين القوى السياسية الفاعلة، كان لابدّ من مبادرة ما، أو مساعٍ داخلية، لمنع وقوع الإنفجار الكبير، لو تمّ تشكيل حكومة حيادية، أعلن رئيس الجمهورية أنه سيلجأ الى توقيع مراسيمها وهي موجودة بحوزة الرئيس المكلّف تمام سلام، إذا لم تتفق القوى السياسية على حكومة جامعة، وحدّد موعد 7 كانون الثاني الحالي لولادتها، وقد وضع البلاد أمام مرحلة دقيقة جداً، إذ أن قوى «8 آذار» وتحديداً «حزب الله»، أبلغوا المعنيين، أن مثل هذه الحكومة لن تصل الى مجلس النواب، كما لن تسلم لها الوزارات، وستكون بمواجهة الشارع.
هذه اللغة التصعيدية وصلت الى رئيس الجمهورية كما الى البطريرك بشارة بطرس الراعي، والى الداخل والخارج، من أنه حذار من حكومة تعزل طائفة، أو تقصي «حزب الله» المتضامنة معه حركة «أمل» عن السلطة، وهي تجربة كانت دموية على لبنان في العام 1975 مع عزل حزب الكتائب سياسياً، فاستغلّ الوضع، ليحوّله الى عزل للمسيحيين.
وتمّ لجم خطوة الحكومة الحيادية وتمديد الوقت لمنع الإنفجار، فأقنع الرئيس برّي قيادة «حزب الله» السير بصيغة حكومة من ثلاث ثمانات وهي كان اقترحها الرئيس سلام، على أن تكون حيادية، لكن «8 آذار» رفضتها واشترطتها سياسية تتمثل فيها القوى الفاعلة وتتضمّن ثلثاً ضامناً، واقترحت كحل أن تكون من 9+9+6، فيكون هذا الثلث لكل من فريقي «8» و«14 آذار»، لكن الأخير رفضها وأصرّ على 8+8+8، وأن تكون حيادية، فكان الإقتراح الذي تدارسه برّي مع جنبلاط، هو أن تتنازل «8 آذار» عن الثلث الضامن وتقبل بصيغة ثلاث ثمانات، على أن يقبل الفريق الآخر بحكومة سياسية جامعة لا تقصي أحداً، لأن الإقصاء يعني حرباً أهلية، وأن «14 آذار» عندما تطالب بحكومة حيادية فيتوجب ان يكون رئيسها حيادياً، وليس تمام سلام وهو من فريق «14 آذار» وقد أسماه.
أوقفت مساعي جنبلاط المدعوم من برّي، إصدار مراسيم حكومة قيل إنها حيادية، أو من أشخاص غير حزبيين وقد يكون بعضهم له ميول سياسية لهذا الفريق أو ذاك، وبدأت عملية التنازل من خلال الإتفاق على الشكل، فكان جواب «تيار المستقبل» ورئيسه سعد الحريري للنائب جنبلاط أنه لا يمانع من تشكيل حكومة سياسية ولكن لا بدّ من أجوبة على أسئلة تتعلّق بالمداورة في الحقائب، ثمّ في عدم فرض أسماء وزراء على حقائب وزارية، كما حصل مع توزير جبران باسيل سابقاً، الى إلتزام «حزب الله» بإعلان بعبدا وسحب مقاتليه في سوريا، ثم إستبدال عبارة الجيش والشعب والمقاومة في البيان الوزاري.
هذه الأسئلة من «تيار المستقبل»، كان الجواب عليها، بأن المداورة ليست مشكلة، وأعلن الرئيس برّي أنه لا يمانع في ذلك وبشكل شامل ومتوازن وعادل، وأن لا تكون حكراً على الطوائف الأساسية الكبرى، على أن تشمل المداورة أيضاً وظائف الفئة الأولى، أما المسائل السياسية فتترك للحكومة التي ستشكّل، أن تلاقي الصيغ المقبولة لحلّها من ضمن البيان الوزاري.
إلاّ أن ما طرحه برّي وجنبلاط من صيغة للحكومة، تتمثّل فيها الأطراف الأساسية، لم يلقَ القبول عند صقور «تيار المستقبل»، وقوبل برفض متشدد من قبل “القوات اللبنانية” ومرونة من حزب الكتائب، وتحفظ «التيار الوطني الحر» عن التعليق بإنتظار ما ستنتهي إليه المفاوضات، وإن كان يخشى من تحالف رباعي جديد كما حصل في العام 2005، لكن العماد ميشال عون لن يكرّر ما حصل في السابق، فهو لم يرفع شروطاً عالية، بل طالب بحقوق، ولن يذهب الى تفجير الوضع الحكومي إذا ما رأى أن توافقاً قد جرى على مستوى الدول الكبرى التي تؤيّد الاستقرار في لبنان، ولا ترغب أن ينزلق نحو حرب أهلية، وقد جاءت النصائح الدولية لقوى إقليمية أن يسهلوا تشكيل حكومة سياسية جامعة، حتى أن واشنطن لم تضع «فيتو» على مشاركة «حزب الله» فيها، كما أبلغ مسؤولون أميركيون قيادات لبنانية التي تلقت من السفير الأميركي في لبنان ديفيد هيل إشارات إيجابية على إنخراط «حزب الله» في الحياة السياسية، وهو ما انعكس على حلحلة داخلية بشأن تحريك عجلة تشكيل حكومة جامعة، وقد وصلت الرسائل الأميركية والدولية الى السعودية التي رحّبت بتوافق اللبنانيين على حكومة يشارك فيها الجميع، بعد أن كانت وعبر حلفائها في لبنان، تضع إنسحاب «حزب الله» من سوريا كشرط للقبول بتمثيله في الحكومة.
فمَن حرّك البحث بحكومة جامعة، هي عوامل دولية وإقليمية، حيث الإتجاه نحو إطفاء البؤر المشتعلة بدءاً من سوريا التي مضى على أزمتها ثلاث سنوات، ولم ينفع الحسم العسكري من كل الأطراف، فكان لا بدّ للحل السياسي أن يتقدّم نحو مؤتمر «جنيف 2»، الذي تزامن إنعقاده مع حرب ضد تنظيم «داعش» في العراق وسوريا، وبدعم أميركي وسعودي، مما يؤشر الى أن لبنان لن يقع تحت سيطرة «داعش» أو «النصرة»، وقد أعلنا إنتقال نشاطهما الإرهابي الى لبنان، فكان لابدّ من دفع «تيار المستقبل» نحو القبول بحكومة سياسية جامعة، لأن البديل عنه في الساحة السّنّيّة، هو جماعات تكفيرية بدأت تفرض وجودها ونفوذها في مناطق الشمال والبقاع والجنوب وبيروت، وتبنّت عمليات تفجير وقصف، مما يضع «الحريرية السياسية» أمام إمتحان بقائها، و«السّنّة المعتدلين»، في مواجهة التكفيريين الذين سيعملون على إجتثاث كل مَن لا يشاركهم أو يؤيّد فكرهم التكفيري كما يحصل في عدد من الدول.
ولقد فتحت مساعي جنبلاط لحكومة سياسية جامعة، الباب لإعادة الحوار الداخلي، والإتفاق على تنظيم الخلاف على قضايا كبرى مثل وجود سلاح المقاومة المتروك للبت باستراتيجية دفاعية وطنية، أو مشاركة أطراف لبنانية في الصراع الداخلي في سوريا، وهذه المسألة قد تُحل خلال أشهر من خلال حل الأزمة السورية، وقد تطول، ولا يمكن إبقاء تشكيل الحكومة مربوطاً بالأزمة السورية، وفتح ثغرات سياسية وأمنية في الساحة اللبنانية يتسلّل منها مَن يريد ضرب الإستقرار في لبنان.
وهكذا تخطو المفاوضات خطوات متقدمة وايجابية لتشكيل حكومة جامعة تطالب الدول الكبرى لبنان بإنجازها، والإستفادة من المناخ الدولي والإقليمي الداعم لها، إذ بدأت الأمم ترسم خارطة مصالحها، وقد برز ذلك في الإتفاق الروسي-الأميركي، كما في الحوار الأميركي- الإيراني، ثمّ في الإتفاق الإيراني والدول الست حول البرنامج النووي السلمي الإيراني، يضاف الى ذلك أن حرباً دولية تقوم على الإرهاب، وسيكون للنظام السوري دور فيها، وقد عادت قنوات الإتصال الأمنية الأوروبية والأميركية معه، مما يؤشّر الى أن إسقاط النظام بات أمراً مستبعداً، وأن حرصاً دولياً في أن تبقى الدولة السورية، ولا تتكرّر تجربة العراق، فتقسم سوريا، وهو ما دفع بأصحاب القرار الدولي الى إسداء نصائح للقوى اللبنانية، أن يحافظوا على الدولة ومؤسساتها وأن تبقى السلطة المركزية متماسكة مع الجيش الذي أثبت قدرة على منع إندلاع الفتنة، لأن الحرب الأهلية التي عاشها اللبنانيون ستكون مدمرة، كما يحصل في العراق وسوريا ودول أخرى…
Leave a Reply