مرّ تشكيل الحكومة الأولى لسعد الحريري، بعد الانتخابات النيابية قبل عام، والتي فازت فيها قوى “14 آذار” بالأكثرية في حينه، بمخاض عسير، إذ تدخلت السعودية وسوريا بعد إتمام المصالحة بينهما في الكويت، من أجل ولادة حكومة وحدة وطنية، استغرقت خمسة أشهر، وهي فترة طويلة في تأليف الحكومات في لبنان. ولأن الحكومة كرست الوفاق الوطني، واستحوذت على الرعاية من الرياض ودمشق، ونالت دعماً عربياً وإقليمياً ودولياً، فإنها لم تثبت فعاليتها بعد، رغم مرور نحو نصف عام على حصولها على ثقة مجلس النواب، إذ لم تبدأ بعد بعمل لتطبيق بيانها الوزاري، وأن رئيسها لم يفِ بالوعود التي قطعها أنه سيضع أولويات المواطنين الاقتصادية والاجتماعية في أولى اهتماماته، إذ مرّ وقت ضائع ولم تستفد الحكومة من الدعم الذي نالته، ولا من شبه الإجماع الشعبي اللبناني حولها، كونها تضم معظم الكتل النيابية الأساسية، أي نحو 95 بالمئة من مجلس النواب، مما أعطاها اندفاعة قوية لكي تحقق ما وعدت به، إذ لا تواجهها معارضة فعلية من أحزاب وقوى ذات وزن سياسي وشعبي.
ففترة السماح التي تعطى عادة للحكومات، قد بدأت تنفذ، ولم يسجل للحكومة الحالية، أنها نفذت شيئاً يذكر، سوى استحقاق الانتخابات البلدية والاختيارية، الذي لم يجرِ على أساس قانون أدخلت عليه الحكومة إصلاحات، وأسقطه مجلس النواب، تحت ذريعة ضيق الوقت، وجرت الانتخابات على القانون القديم، القائم على اعتماد الأكثرية لا النسبية، والذي لا يلحظ “كوتا نسائية”، ولا يحدد الإنفاق الانتخابي ويضبط الإعلام والإعلان الانتخابي ولا يفرض توفر شهادة جامعية أو ثانوية على المرشحين لعضوية المجالس البلدية والاختيارية.
جرت الانتخابات البلدية والاختيارية في ظل قانون يشكو منه الجميع وسجل لوزير الداخلية زياد بارود، حسن إدارته للعملية الانتخابية، التي لم تسجل فيها شوائب تذكر أو حوادث أمنية كبيرة، سوى من بعض شكاوى بسيطة، حيث جاءت النتائج لتعكس الى حد ما، نتائج الانتخابات النيابية الماضية لتوزع القوى السياسية والحزبية، مع فارق وهو دخول العامل العائلي بقوة على الانتخابات البلدية الذي يغير في المعادلات، ويفرض تحالفات مخالفة أحياناً للواقع السياسي، إذ يلعب الدور المحلي لعبته، كما الشأن الإنمائي، لكن السياسة طبعت هذه الانتخابات، وبدأ قياس النتائج سياسياً، حول حجم القوى المتنافسة شعبياً من أحزاب وتيارات سياسية، التي أصدرت بيانات تشير الى فوزها في هذه البلدية أو تلك، أو خسارة أخصامها للائحة مدعومة منهم.
فإنجاز الانتخابات البلدية والاختيارية يحسب للحكومة، لكن في المقابل، فإنها مقصرة في إصدار الموازنة العامة، وهي تأخرت عن موعدها الدستوري أربعة أشهر، ومازالت في المناقشة، إذ أن هذا التأخير ليس في صالح الحكومة التي ورثت من حكومات فؤاد السنيورة السابقة عدم إقرار موازنات عن أعوام سابقة دستورياً لغياب الاستقرار السياسي والأمني، والتشكيك الدستوري بشرعية الحكومة التي فقدت ممثلين لطائفة أساسية باستقالة وزراء الشيعة ممثلي “حزب الله” وحركة “أمل” منها، مما رفع عنها صفة تمثيل الطوائف والعيش المشترك.
لم يكن التباطؤ في إقرار الموازنة تقنياً بل سياسياً، يتعلّق بنهج مالي وضرائبي مازال مستمراً، مع وزيرة المالية ريا الحسن، التي هي من المدرسة “الحريرية” و”السنيورية”، التي تستسهل الإستدانة ورفع الدين العام وخدمته، وفرض الرسوم والضرائب، واعتماد سياسة إنفاق غير مجدية، ظهرت منذ وصول رفيق الحريري الى رئاسة الحكومة، إذ كانت معارضته تؤكّد له، أن الاقتراض وتحميل اللبنانيين ديناً، لا يمكنهم دفعه، سيولّد عجزاً في الموازنة وتضخماً مالياً وتراجعاً في الرعاية الاجتماعية، وفي جذب المشاريع الاستثمارية.
فالحكومة الأولى للحريري، وقعت في ما وقعت حكومة والده الأولى، في القروض وفرض الرسوم والضرائب، مما أوقعها في سجال داخلها مع البدء في مناقشة الموازنة، فظهر وزير مشاكس اسمه شربل نحاس، وضع ملاحظات على استمرار تقديم الموازنة بالسياسة السابقة نفسها، والتي أدت الى تراكم الدين، الذي سيكون السبب الى بيع مرافق من القطاع العام الى القطاع الخاص، وقد بدا منذ الجلسة الأولى لمناقشة الموازنة، أن ثمة اتجاهين متعاكسين في النظرة الى السياسة المالية والاقتصادية، وأن نحاس هو من مدرسة مختلفة كلياً عن مدرسة الحريري المالية.
من هنا تبدو الحكومة عاجزة وليست بموازنتها فقط، فهي عاجزة أن تكوّن رؤية موحدة، بالرغم من وجود بيان وزاري يجمعها، لكن لا إجماع عليه، إذ هناك عدد من الوزراء المسيحيين من قوى “14 آذار”، اعترضوا وتحفظوا على ما ورد في البيان حول حق لبنان جيشاً وشعباً ومقاومة في الدفاع عن أرضه، حيث يكفي وجود وزراء يرفضون هذا البند، ليتبيّن أن الحكومة ليست وفاقية، ولا تمثّل الوحدة الوطنية، ولا يجمعها خيار سياسي واحد، إذ أن رئيس الهيئة التنفيذية في “القوات اللبنانية” سمير جعجع والممثل حزبه بوزيرين في الحكومة، يعتبر المقاومة غير ذي جدوى، ولا فائدة منها، وأن سلوك المفاوضات هو الذي يعيد الأرض، على غرار ما فعلت دول عربية معتدلة مثل مصر والأردن وكما تفعل السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس، وأن هذا المحور العربي المعتدل، يجب أن ينتسب إليه لبنان، لا محور المقاومة والممانعة التي تمثله سوريا وإيران ومعهما “حزب الله” في لبنان و”حماس” في فلسطين، وهو ما يلتقي مع التوجه الأميركي الذي يدعو الى شطب المقاومة، وأن تنفصل سوريا عن إيران، وتدخل في عملية السلام، وتغيّر سلوكها بفك تحالفاتها مع حركات المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق.
هذا التوجه السياسي، لأحد الأحزاب الممثلة في الحكومة، والذي يقف في صفه حزب الكتائب ووزراء آخرون من “تيار المستقبل”، يكشف عن أن الحكومة لن تعمّر سياسياً، بعد أن فشلت شعبياً في تأمين المستلزمات الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين، فهي مازالت تتلمس الطريق للخروج من أزمات باتت مستعصية على الحل كأزمة الكهرباء، التي يسعى وزير الطاقة والمياه جبران باسيل الى إيجاد برنامج حل لها، ولكنه دونه عقبات وعقد، وهي تستنزف الخزينة بأكثر من مليار دولار سنوياً، وأن التأخير في الوصول الى حلول، ستكون له انعكاسات سلبية على الاقتصاد الوطني، إذ يشعر باسيل وهو وزير معترض داخل الحكومة على النهج المرسوم، الذي لا ينفك يضع نصب عينيه سوى حل واحد، وهو الخصخصة، وخارجه لا يبدو أن ثمة تفكير في تحويل محطات توليد الكهرباء الى الغاز، أو الاعتماد على الربط السباعي مع دول الجوار، أو البحث عن مصادر للطاقة الشمسية أو من الهواء، وكلها اقتراحات يجري درسها من قبل الوزير باسيل، الذي يخشى تعرضه لنكسة كما حصل معه في وزارة الاتصالات من خلال عرقلة قام بها السنيورة والوزراء التابعين له، وكما يحصل الآن مع خلفه الوزير نحاس، الذي تُشن عليه حملة من “تيار المستقبل”، لأنه يرفض بيع قطاع الاتصالات على حساب اللبنانيين.
فالكهرباء التي تخضع للتقنين، لن تمكن الحكومة من إنارة لبنان على مدى اليوم، كما لن تستطيع أن تؤمن حركة المرور وتنظيم السير، والى معالجة البيئة التي بدأت تضر بالصحة، كما في الموسم السياحي، ثم في موضوع الغلاء الذي يتصاعد مع ارتفاع الأسعار، لا سيما المحروقات، إضافة الى الوضع المالي المتردي للضمان الاجتماعي وتراجع التقديمات الاجتماعية والصحية، وتعثر مشروع ضمان الشيخوخة، ثم الوضع التربوي المتراجع في تعزيز المدرسة الرسمية والجامعة الوطنية “اللبنانية”، وتأمين فرص العمل للخريجين.
فالأزمات كثيرة وكبيرة، ولم تظهر الحكومة الطائرة، أنها على استعداد لحلها، إذ أن رئيسها في سفر دائم، وهو يتسابق مع رئيس الجمهورية على القيام بجولات خارجية، تحت عنوان وضع لبنان على الساحة الدولية والعربية، في حين أن مشاكل المواطنين دون حل، واجتماعات مجلس الوزراء تدور في جلسات نقاش عقيمة، كما ظهر حتى الآن، وهي لم تصدر أي قرار يعكس اهتماماً بحياة المواطنين، وتدبير شؤونهم، وتسيير أمورهم الاجتماعية والاقتصادية، وتأمين فرص العمل.
لذلك ظهرت في الآونة الأخيرة إشارات عن تغيير حكومي، تحت عنوان، أن الحكومة لم تتقدم في تحقيق ما وعدت به، وهي مازالت تراوح في مكانها، فلا استطاعت الدخول في الإصلاح الإداري، ووقفت عند وجود آلية للتعيينات، لم تخرج من إطار المحاصصة وتقاسم الجبنة بين أطرافها، مما يضع الإصلاح في مرتبة متأخرة، ولا يعوّل عليه، مع غياب المحاسبة الفعلية للفاسدين في إدارات الدولة، بالرغم من خروج أكثر من وزير يشكو من هؤلاء، وكان أجرأهم الوزيرين حسين الحاج حسن وغازي العريضي، لكن المواطن لم يلمس أن إجراءات فعلية اتخذت فعلاً بحق المرتشين والفاسدين، وأن هيئات الرقابة قامت بموجبها بملاحقتهم واتخاذ العقوبات بحقهم، أو أن القضاء تحرك للقيام بدوره، وهو المشكو منه أيضاً أنه يضم في صفوفه قضاة مشتبه بهم بالفساد، حيث تعلو الأصوات تطالب بتطهير جسمه منهم، كما حصل في عهود سابقة، وقد جرى تعيين هيئة التفتيش القضائي الذي يعول عليها، بأن تقوم بدور رادع وتضع حداً للذين يسخرون القضاء للسياسة ولمصالح فئوية، ويغطون أصحاب الأموال المنهوبة، وقد كان لافتاً، إنجاز مجلس القضاء الأعلى بث 17 ملفاً لقضاة متهمين بالفساد والرشوة الخ…
فمثل هذه الحكومة وإن كانت وفاقية، لاتوحي للمواطنين بالثقة، إذ هي لم تظهر فعاليتها، وتعيش في دوامة من الدوران حول نفسها، وبالتالي فإن الكلام عن تغييرها بدأ يتقدم، لجهة تشكيل حكومة أكثر انسجاماً وتطابقاً في الرؤية السياسية والمواقف الوطنية، إذ لا يجوز أن تبقى حكومة تحمل ألغاماً من داخلها، لا سيما في موضوعي العلاقة مع سوريا والتعاون مع المقاومة، وأن هذا العنوان هو الذي قد يعجل في تغييرها الذي يحتاج الى توافق سوري-سعودي الذي يرعى الاستقرار الداخلي اللبناني، وهذا الأمر سيتبلور خلال الأشهر القادمة، مع التطورات التي تشهدها المنطقة، فإذا ما عرف العراق حكومة وحدة وطنية برئاسة إياد علاوي، فإن لبنان قد يتأثر بذلك، لجهة إعادة ترتيب الوضع فيه، ضمن رؤية سياسية جديدة، مع الإفرازات الجديدة للتحولات التي تعيشها المنطقة، والتحالفات التي تحصل فيها، من خلال تطور العلاقات السورية-الإيرانية-التركية-القطرية، وتواصل العلاقات الإيجابية السورية-السعودية، التي قد تتطور باتجاه إيران مع التحول الإيجابي الذي طرأ على برنامجها النووي وتوقيع اتفاق بتسليم الوقود النووية الى بلد ثالث هو تركيا.
فهذه التطورات ستقرأ لبنانياً، مع تطوير الرئيس سعد الحريري لعلاقاته مع سوريا ورئيسها بشار الأسد، حيث تتوقع مصادر سياسية أن يكون التغيير الحكومي خلال الأشهر الأخيرة من نهاية العام، بحيث يؤتى بحكومة يكون رئيسها الحريري، مع تمثيل أوسع لقوى فاعلة ولها حضور شعبي وسياسي، بما يؤمن مظلة واقية للبنان، من أي عدوان إسرائيلي، حيث يخرج من الحكومة، كل من ينتظر هذا العدوان، ومن يستمر في مطالبته بنزع سلاح المقاومة، وفي التعاطي مع سوريا في علاقة نديّة وليست مميزة.
Leave a Reply