كمال ذبيان – «صدى الوطن»
منذ الانسحاب السوري عام 2005، اعتاد اللبنانيون أن تتأخّر ولادة الحكومات لأشهر عدّة، وصلت في إحدى المرات إلى نحو سنة كاملة، كما عاشوا سنوات من شغور رئاسة الجمهورية وتأجيل الانتخابات النيابية، وكل ذلك كان يؤثر على انتظام عمل المؤسسات والحياة الديمقراطية، عدا عن انتهاك الدستور، فمرت البلاد بأزمات وفوضى سياسية وانقسام وطني وتوترات أمنية أوصلت البلاد أكثر من مرة إلى حافة صراع أهلي بأبعاد إقليمية ودولية. لكن هذه المرة، يبدو الأمر أكثر تعقيداً وخطورة في ظل الإفلاس المالي والانهيار الاقتصادي والتحولات الاجتماعية غير المسبوقة التي يعيشها اللبنانيون اليوم.
الحكومة مؤجّلة
مضى حوالي أربعة أشهر على تكليف الرئيس سعد الحريري بتأليف الحكومة العتيدة، دون أن يتمكن حتى الآن من تقديم تشكيلته الوزارية بالرغم من الصيغة الأولية التي قدّمها لرئيس الجمهورية ميشال عون، في نهاية كانون الأول الماضي، بعد 13 جولة من المشاورات بينهما. وبينما يظل الخلاف بين الرئيسين قائماً حول شكل الحكومة وتوزيع الحقائب وعدد الوزراء وأسمائهم، والأهم من ذلك كله الخلاف حول الصلاحيات وهو خلاف دستوري جوهري.
إذ أن عون يرى أن رئيس الجمهورية شريك في تشكيل الحكومة، وليس مجرد «باش كاتب» يوقّع على المراسيم دون أن يكون له رأي، في حين أن «نادي رؤساء الحكومات السابقين»، يرَون أن الرئيس المكلّف عليه فقط أن يُطلع رئيس الجمهورية على صيغة الحكومة والتشاور معه حولها وأن توقيعه لا يعني أن له الحق الدستوري بأن يكون حاجزاً أمام تشكيل الحكومة التي عليها ضمن صلاحياتها وضع السياسة العامة للبلاد في جميع المجالات.
وأمام الخلاف القائم تبقى الحكومة مؤجّلة إلى أجل غير مسمى، حيث لم تتمكّن المبادرات الداخلية من تقريب وجهات النظر بين الرئيسين وظروفهما، التي باتت تعجيزية. فقد أخفق البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي، في ردم الهوة، كذلك سعى رئيس مجلس النواب، نبيه برّي، إلى «لبننة الحل» وعدم ربطه بالخارج ففشل، أما «حزب الله» فلم يتوقف عن محاولة تدوير الزوايا بين الطرفين دون تحقيق أي تقدم يذكر. كما تراجع الحماس عند صاحب المبادرة الفرنسية، الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي التقى الحريري على عشاء خاص في باريس، دون إعلام أو بيانات، ليبقي نفسه على مسافة واحدة من الجميع، باعتباره وسيطاً لحل الأزمة وليس طرفاً فيها، وهو الذي التقى مختلف القوى السياسية الفاعلة أثناء زيارتيه لبيروت، وكان سيحضر لمرة ثالثة قبل نهاية العام المنصرم لولا إصابته بفيروس كورونا الذي أجل زيارته الثالثة دون أن يلغيها، بينما يواصل سيد الإليزيه متابعته للوضع اللبناني، مستنداً إلى شبه توكيل مرحلي، أميركي–أوروبي.
الموقف السعودي
التأييد الدولي للمبادرة الفرنسية لا يقتصر على الغرب، بل يشمل أيضاً روسيا التي حثّت على الإسراع في تشكيل حكومة برئاسة سعد الحريري، الذي تربطه علاقة جيدة بالرئيس فلاديمير بوتين، كما ماكرون، غير أن العثرة الحقيقية أمام هذا المسار فتتمثل بالموقف السعودي الرافض لعودة الحريري إلى رئاسة الحكومة، وهي التي كانت قد أجبرته على الاستقالة في 4 تشرين الثاني 2018، إثر استدعائه وتوبيخه في الرياض، التي رأت في أدائه وتنازلاته، تقوية للنفوذ الإيراني في لبنان من خلال تقربه إلى «حزب الله» المتهم من قبل المملكة السعودية بمساعدة الحوثيين وتدريبهم على قصفها بالصواريخ.
بالمختصر، لم يرق للسعوديين اشتراك الحريري و«حزب الله» في حكومة واحدة، وفق اتفاق «ربط النزاع» بينهما، ولم يرق لها أيضاً تسهيل وصول عون لرئاسة الجمهورية وفوز حلفاء المقاومة بالأكثرية النيابية فتُرجم الغضب السعودي باستدعاء الحريري على عجل، بعد لقائه موفد المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران، علي أكبر ولايتي، الذي تباهى من السراي الحكومي بعلاقات طهران ونفوذها في لبنان.
ولا شك أن الموقف السعودي السلبي من الحريري، يظلل كل خطوة يخطوها الرئيس المكلف في تشكيل الحكومة، وهو الذي ينتظر ضوءاً أخضر من المملكة التي أوصدت أبوابها بوجهه، ولم تستقبله حتى للقاء عائلته التي انتقلت إلى أبوظبي لرؤيته.
تلك كانت رسالة واضحة للحريري، بأنه غير مرغوب به سياسياً في السعودية، إذا كان سيمضي في إشراك «حزب الله» في الحكومة، وأن سقفه هو خطاب العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي اتّهم فيها «حزب الله» بتخريب لبنان، وتفجير المرفأ، ومنع قيام الدولة. هذا السقف لا يستطيع الحريري تخطيه، إذا ما أراد نيل الرضا السعودي لتشكيل حكومته الجديدة، وليس أمامه سوى طلب وساطات من الرئيس الفرنسي، وزعماء دول زارها، كمصر والإمارات، لفتح أبواب الرياض مجدداً أمامه للعودة إلى الحكم في لبنان. أما إذا سلك الحريري طرقاً أخرى، فإن المملكة لن تدعمه لا سياسياً ولا مالياً، بل على الاأرجح أنها ستؤلّب الشارع السني ضده.
مصير مجهول
أمام العراقيل الداخلية لتشكيل الحكومة، والتلكّؤ الخارجي في مساعدة لبنان قبل الحصول على تنازلات من المسؤولين اللبنانيين يستحكم الخلاف بين تياري «المستقبل» و«الوطني الحر»، ولكل منهما حساباته في شكل الحكومة والحصص فيها، إذ يدور الصراع على الثلث الضامن أو المعطّل، ويتّهم كل منهما الآخر بأنه يريده لنفسه، رغم نفي الطرفين.
في وقائع التأليف، يبدو أن مقترح الحريري بتشكيل حكومة من 18 وزيراً، لن يبصر النور، إذ يتمسّك الرئيس عون بحكومة من 20 وزيراً كما يطالب باختيار سبعة وزراء من حصة المسيحيين فيها، وهو ما يرفضه الرئيس المكلّف الذي يرى في هذا الرقم، محاولةً من رئيس الجمهورية للإمساك بمصير الحكومة التي تسقط تلقائياً في حال استقال ثلث أعضائها، مثلما حصل مع الحريري نفسه عندما أُسقطت حكومته في عهد الرئيس ميشال سليمان. وهي التي قد ولدت بعد خلافات حول الثلث الضامن انتهت بتعيين الدكتور عدنان السيد حسين، الذي كان يشغل منصب رئيس الجامعة اللبنانية، «وزيراً ملكاً» فيها، لم يكن محسوباً على أي طرف، لكنه عندما قرّر تحالف حركة «أمل» و«حزب الله» و«التيار الوطني الحر» إسقاط الحريري، إنضمّ إليهم الوزير حسين فأمّن الثلث المعطّل، واستقالت الحكومة في اللحظة التي كان الحريري يدخل لمقابلة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما في البيت الأبيض أوائل العام 2011.
واليوم، يمكن القول إن لبنان يتّجه نحو المجهول، وفق توصيف الرئيس برّي، إذ أن أفق الحلحلة الداخلية مسدود، والشروط السعودية التعجيزية على الحريري قائمة، أما الأخير فليس أمامه سوى التعويل على الرئيس الفرنسي الذي سيزور الإمارات والرياض لتليين الموقف وإنجاح مبادرته التي ترشح الحريري لرئاسة الحكومة تحت سقفها، واعتبر أن بنودها، هي طريق الإنقاذ لانتشال لبنان من الحفرة التي وقع فيها، غارقاً بأزماته المالية والاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، وسط ازدياد حاد في نسبة الفقر ومعدلات البطالة.
أشهر صعبة
ينتظر لبنان أشهراً صعبة جداً، لاسيما إن ظلت البلاد بلا حكومة. إذ حذّر مصرف لبنان المركزي من أن الاحتياط النقدي أصبح على وشك النفاد في أيار المقبل، وأن رفع الدعم عن السلع الأساسية بات أمراً محتوماً مع نضوب الأموال من الخزينة، وشح الدولار في المصارف وعند الصرافين، بل حتى في السوق السوداء التي تتحكّم عملياً بسعر صرف الليرة الذي شارف على عشرة آلاف لكل دولار أميركي، وقد يواصل صعوده إلى مستويات مفتوحة، وصولاً إلى ثلاثة أضعاف وربما أكثر من السعر الذي وصل إليه اليوم، كما حصل في دول مثل فنزويلا واليونان وقبرص وسوريا والموزامبيق وغيرها.
يتحدّث خبراء المال والاقتصاد عن أن سعر صفيحة البنزين قد يصل إلى نحو مئة ألف ليرة خلال الأسابيع القادمة، مع بدء رفع الدعم الحكومي، وهو ما سيؤدي حتماً إلى ارتفاع جنوني للأسعار، التي ستصل إلى مستويات لا يمكن للمواطنين تحملها، مما قد يدفعهم مجدداً إلى الشارع وهم الذي اختبروه منذ نحو عام ونيف، لكن «الحراك الشعبي» لم يؤدِّ إلى أي تغيير إيجابي سواء في سلوك السلطة السياسية أو المالية، بل إن الصراع مازال في أوجه بين كبار الزعماء حول الحصص والمكاسب والمغانم الطائفية.
Leave a Reply