عباس الحاج أحمد
تستعيد الصراعات العربية-الإسلامية فورتها كلما فُتح كتاب التاريخ، أو تحركت بعض الأسئلة الجدلية. أسئلة تبدأ بعلامة استفهام كبرى على التأخر العربي-الإسلامي المزمن عن ركب التطور الحضاري، ولا تنتهي عند القيود المفروضة على العقل العربي-الإسلامي وعزله عن موروثه العلمي والفلسفي المشرق بشخصيات تاريخية، تبدأ بإبن سينا وإبن الهيثم والخوارزمي ولا تنتهي عند إبن رشد ومحيي الدين ابن عربي وشمس التبريزي. أما موضوع الجدل في شهر رمضان المبارك الحالي، فهو «الحلّاج».
فبمجرد إعلان قناة «أبوظبي» الإماراتية عن إنتاج مسلسل جديد عن «الحلّاج»، انتفض البعض من التيارات الإسلامية المتشددة وشنوا هجوماً حاداً على الإمارات ومنتجي المسلسل، ليعيدوا حرق جسد الحلّاج ويكرروا صلبه مجدداً أمام العامة مراراً وتكراراً.
نستعيد بدعوات وادعاءات شيوخ التعصب والكراهية، لحظات قتل الحلّاج. تجمع المحتشدون في ساحة الإعدام، شاهدوه وهو يمسح وجهه بالدماء التي سالت من يديه وقدميه بعد قطعها. سأله أحدهم: ماذا تفعل؟ فأجاب: أتوضأ، فسأله: أي وضوء هذا؟ فأجاب: ركعتان في العشق لا يصح وضؤهما إلا بالدم.
كان الحلّاج يتحدث عن عشق الله والفناء فيه «فالتوحيد الحق إنما هو توحيد الذات بالله، وكل ما هو دون ذلك إن هو إلا تعلق بالوهم الخادع».
بدأت صراعات أبو عبد الله حسين بن منصور الملقب بالحلّاج المولود في 858 ميلادية، قبل إعدامه بعشرين عاماً، حين كان يمشى في سوق بغداد صارخاً في الناس: «يا أهل الإسلام أغيثوني، فليس يتركني ونفسي فآنس بها، وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها، وهذا دلال لا أطيقه».
هو يعتبر من أهم شيوخ «الصوفية». وقد طعّمها بنكهة اجتماعية-سياسية اختلطت بدمائه التي سالت في سبيل نشر الوعي وحس الثورة في وجه طغيان الجهل والانبطاح والكراهية.
التصوف عند الحلّاج جهاد في سبيل إحقاق الحق، وليس مسلكاً فردياً بين المتصوف والخالق فقط. لقد طور النظرة العامة إلى التصوف، فجعله جهاداً ضد الظلم والطغيان في النفس والمجتمع، وكان لدعوته تأثير على السلطة السياسية الحاكمة في حينه.
عن إبراهيم بن عمران النيلي إنه قال: «سمعت الحلّاج يقول: النقطة أصل كل خط، والخط كلّه نقط مجتمعة. فلا غنى للخط عن النقطة، ولا للنقطة عن الخط. وكل خط مستقيم أو منحرف هو متحرك عن النقطة بعينها، وكلّ ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين. وهذا دليل على تجلّي الحق من كل ما يشاهد وترائيه عن كل ما يعاين. ومن هذا قلت: ما رأيت شيئاً إلاّ رأيت الله فيه».
يتناول مسلسل «الحلّاج» سيرته في إطار تاريخي تخيّلي. تبدأ الحكاية عام 265 هجرية في عصر الخلافة العباسية الثانية، وما شهدته تلك الفترة من اضطراب في تداول السلطة، وأثر ذلك على الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
وبزغ في تلك الفترة نجم السيدة «شغب» وهي جارية من جواري المعتضد بالله وأم ولده «جعفر»، والتي تمكنت بدهائها وقوة شخصيتها وفهمها لخفايا السياسة والحكم من خوض صراعات قاسية في سبيل تثبيت حكم ولدها جعفر الذي أصبح خليفة باسم المقتدر بالله.
عاش الحلّاج في خضم تلك الفترة التاريخية شديدة التعقيد سياسياً وثقافياً وفكرياً، ورغم رحلاته الطويلة، إذ يعد الحلّاج أحد كبار الرحالة في تاريخ الفكر الصوفي، إلا أنه استقر في آخر مراحل حياته في مدينة بغداد، عاصمة العلم والحضارة في ذلك الزمن.
وبخط موازٍ يتناول العمل، شخصية النخاس (النطل)، وهو جيل جديد من النخاسين أفرزه البذخ والثراء الفاحش في العصر العباسي، فأصبح هناك من يعمل على تطوير النخاسة وتجارة الرق إلى عالم الفانتازيا، وامتلك «النطل» بيتاً لتعليم الجواري فنون الحب والشعر والغناء والرقص.
المسلسل من تأليف وسيناريو الكاتب أحمد مغربي وإخراج علي محي الدين، وهو من بطولة غسان مسعود، منذر رياحنة، منى واصف، عاكف نجم، زهير رمضان، محمد قنوع وآخرين.
يعتبر منتقدو الحلّاج، أنّ جميع الطوائف ضالة، بينما طائفتهم هي الوحيدة على صراط مستقيم. وأن أمثال الحلّاج لا يستحقون إلا الذبح والصلب. واعتبر بعض الناشطين الإسلاميين المتشددين، المسلسل، دعوة إلى الضلال والزندقة، حيث انتشرت في الأسابيع الماضية دعوات واسعة إلى مقاطعته. وفي فيديو مسجل، شن الناشط الإسلامي الدكتور إياد القنبي، هجوما حاداً على الحلّاج ومسلسله. معتبراً أنه دعا إلى «وحدة الأديان» وبذلك فهو يجمع ما بين التوحيد والشرك! مضيفاً أن الحلّاج سار على نهج إبن عربي الذي قال: «عقد الخلائق في الإله عقائداً، وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه».
كما اعتبر القنبي، أن المسلسل مدعوم من مراكز أميركية خاصة بالدراسات والتخطيط الاستراتيجي ومن الداعية التركي فتح الله غولن المتهم بالضلال لأنه يدعو الى احترام المسلمين لقوانين الدول التي يعيشون فيها. وشن هجوماً آخر على قناة الحرة الممولة من الحكومة الأميركية بعد نشرها لمقال خاص عن الحلّاج للكاتب عمران سلمان، اعتبر فيه أن الحلّاج بنى دعوته الروحانية على أسس إنسانية شاملة، من دون تعصب لدين أو جنس أو قومية بعينها. وبأنه قصد بفلسفته أن الله موجود في كل مكان، ولا يوجد طريق للوصول إليه، لأن الطريق (الخط) يقتضي وجود نقطتين وليس مع الله أحد. ولكن يمكن إدراك الله مع ذلك من خلال النظر إلى سائر المخلوقات. لأن النقطة أصل كل خط.
تتجلى أسباب التأخر والتخلف دائماً في الفكر الشمولي الجامد، بينما تظهر عوامل النجاح والتطور الحضاري في المجتمعات الديناميكية الحاضنة للتنوع والاختلاف. فبينما يُسلخ جلد الحلّاج وتسفك دماؤه مجدداً على صفحات عالم التواصل الافتراضي، تسير الدولة المنتجة لمسلسله بسياسة الانفتاح والتسامح الديني.
ويعتبر الباحث في العلاقات الدولية ومدير «مركز سلمان زايد لدراسات الشرق الأوسط» هشام البقلي أنه من غير المنطقي الهجوم على المسلسل أو تفسير سبب إنتاجه قبل مشاهدته، مضيفاً في تصريحه الخاص لموقع «رصيف22» أنه حتى الآن لم يتم التعرف على كيفية تناول شخصية الحلّاج في هذا العمل التاريخي. ويشير البقلي إلى أن «الإمارات تتمسك بنموذج الإسلام المعتدل والمتسامح الذي يقدّم كل الآراء ويقبل كل الاختلافات بين الأديان، وبين الفرق المختلفة في الدين الإسلامي نفسه، بدليل الزيارة التاريخية للبابا فرنسيس هذا العام والتي كانت الأولى من نوعها إلى شبه الجزيرة العربية، وبدليل بناء الإمارات أكبر كنيسة للأرثوذوكس في الشرق الأوسط في يناير 2018، وبنائها معبداً هندوسياً على أرضها في فبراير 2018».
Leave a Reply