عماد مرمل – «صدى الوطن»
إنه موسم مكافحة الفساد في لبنان. الجميع يريدون محاربته واجتثاثه من جذوره، فيما هو يستمر في التمدد ملتهماً خلال سيره أطناناً من التصاريح والخطابات الرنانة التي تندد به! ليس هناك أغرب من هذه المفارقة في لبنان. 128 نائباً، و30 وزيراً، وعشرات السياسيين والقضاة يؤكدون بأنهم عازمون على محاربة الفساد والهدر، إلا أن النتائج كانت لا تزال حتى الأمس القريب مخيبة للآمال، وكأن الاشباح المجهولة–المعروفة أقوى من هؤلاء مجتمعين، ما يدفع إلى طرح التساؤلات الآتية:
من يعطل المساءلة والمحاسبة إذا كانت كل الجهات السياسية قد أكدت في أدبياتها رفع الغطاء عن أي مرتكب أو سارق للمال العام؟ من يقول في العلن شيئاً ويفعل في السر شيئاً آخر؟ من يبيع اللبنانيين سمكاً في البحر ويعطيهم شيكات من دون رصيد؟ من يضحك عليهم في وضح النهار مستهتراً بكراماتهم وحقوقهم؟ من يمنع وصول التحقيقات القضائية إلى نهاياتها ويحمي الرؤوس الكبيرة المتورطة في صفقات تفوح منها الروائح الكريهة؟ من يمعن في استنزاف الخزينة والاقتصاد متجاهلاً خطر الانهيار والسقوط في هاوية سحيقة؟
انخراط «حزب الله»
في انتظار الحصول على إجابات شافية، ليس خافياً أن قرار «حزب الله» الانخراط بقوة في معركة مكافحة الفساد قد شكل تطوراً نوعياً، من شأنه التأثير على مسار هذا الملف، إذ أن الوزن الثقيل للحزب يسمح له بتأدية دور متقدم على الخطوط الأمامية للمواجهة مع الفاسدين، إنما من دون أن يعني ذلك أنه سيذهب إلى نزهة، ربطاً بمجموعة التعقيدات والعوائق التي سيصطدم بها في دهاليز الدولة المالية والإدارية، وأنفاقها الطائفية والمذهبية.
وليس أدل على ذلك، من رد فعل بعض الأطراف على المؤتمر الصحافي الأخير الذي عقده عضو «كتلة الوفاء للمقاومة» النائب حسن فضل الله قبل أيام، وأضاء خلاله على مكامن الخلل الفادح في حسابات الدولة المالية منذ عقود. ومع أن فضل الله لم يُسمِّ أحداً في معرض سرده للوقائع التي يملكها تاركاً للقضاء أمر البت بها، إلا أن رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة الذي يلاحقه ملف الـ11 مليار دولار الضائعة سارع إلى الرد بعنف على نائب الحزب، متهماً إياه بالوعظ الكاذب.
ردود فعل «المستقبل»
لم يتأخر «تيار المستقبل» في دعم موقف السنيورة عبر بيان حاد أصدرته كتلته النيابية وصوبت فيه السهام على «حزب الله»، فيما كان الرئيس سعد الحريري يحط فجأة في عين التينة حيث التقى الرئيس نبيه بري على عجل من دون موعد مسبق وبحث معه في محاذير الاتهامات الموجهة إلى السنيورة، كما أن «تلفزيون المستقبل» شن في الوقت ذاته هجوماً عنيفاً على الحزب معتبراً أنه يستهدف الإرث الاقتصادي للرئيس الشهيد رفيق الحريري.
لم ينزلق «حزب الله» إلى اشتباك مباشر مع الحريري وتياره، لكنه أصرّ في المقابل على استكمال المسار القضائي لملف الحسابات المالية، حيث زار فضل الله، المدعي العام المالي القاضي علي ابراهيم ووضع في تصرفه ما لديه من حقائق ووثائق تتعلق بالشبهات التي تحوم حول طريقة إنفاق المال العام خلال حقبة طويلة (خصوصا في مراحل تولي السنيورة رئاسة الحكومة ووزارة المال).
وإلى أن يتضح ما إذا كان القضاء سيذهب حتى النهاية في كشف ملابسات هذا الملف أم لا، فإن ما يمكن استنتاجه على الفور هو أن الجهة المتضررة من فتحه والتدقيق فيه، سارعت إلى شد العصب المذهبي واستنهاض الطائفة التي ينتمي اليها السنيورة، للدفاع عنه ومنحه حصانة بديلة عن الحصانة النيابية التي فقدها بعد عزوفه عن الترشح إلى الانتخابات النيابية الماضية.
السلم الأهلي؟
وبهذا المعنى، يبدو أن «المستقبل» يحاول افتعال معركة سياسية–مذهبية مع حزب الله، لحرف قضية التلاعب بالحسابات المالية عن وجهتها القانونية والقضائية وإدخالها في زواريب الاصطفافات الداخلية الضيقة، بحيث يصبح توجيه اي اتهام إلى السنيورة وكأنه اتهام يستهدف الطائفة السنية برمتها، وليس مسؤولاً سابقاً في الدولة، الأمر الذي قد يعطل القدرة على المساءلة والمحاسبة، خوفاً من التداعيات على الاستقرار الداخلي والسلم الأهلي!
ويُخشى من أن تتكرر هذه الاشكالية عند مقاربة اي قضية فساد دسمة، فيتمترس المرتكبون خلف سواتر طوائفهم ومرجعياتهم، ليحتموا من خطر الملاحقة والعقاب، مستفيدين من طبيعة النظام اللبناني المستند إلى توازنات دقيقة. وما لم يتم الفصل بين الفاسد وطائفته، وما لم تملك المرجعيات السياسية الجرأة الكاملة على رفع الغطاء جدياً عن أي مرتكب يحاول أن يتلطى بها عند «الضيق»، فإن معركة محاربة الفساد ستغدو أقرب إلى إطلاق النار في الهواء أو الجعجعة من دون طحين.
شجاعة القضاء
تحدّ آخر سيواجه حملة الإصلاح المفترضة ويتمثل في المنحى الذي ستسلكه الأجهزة القضائية وما إذا كانت ستتحلى بشجاعة المضي قدماً في سبر أغوار الملفات المشبوهة حتى الإطباق على رموزها الأساسية، من غير الخضوع إلى ضغط التدخلات السياسية أو الاكتفاء بملاحقة صغار المرتكبين الذين غالباً ما يكونون «كبش المحرقة»، علماً أن هناك من يستبعد حصول المفاجآت السارة، على قاعدة أن القاضي المُعيّن والمحمي من القيادة السياسية الحاضنة له، لن يُغضبها ولن يحاسب من هو محسوب عليها، إلا إذا أتاه الضوء الأخضر منها.
باختصار، تواجه الحملة المستجدة على الفساد والهدر امتحان آلة «كشف الكذب»، فهل تعبره بنجاح أم يصيبها الإخفاق من جديد؟
Leave a Reply