بيروت – نبيل هيثم
تبدو المسألة أشبه بلعبة شطرنج عظمى فـي المنطقة العربية، صبت خلالها المملكة العربية السعودية اهتمامها على تهديد «الوزير» الإيراني، فردّت الجمهورية الإسلامية بشكل مفاجىء، قائلة لمنافستها اللدود: «كش ملك»!
فـي الظاهر يبدو الحدث اليمني على هذا النحو، فطوال السنوات الثلاث من الأزمة السورية لم تألُ السعودية جهداً لمحاربة النفوذ الإيراني فـي سوريا والعراق، وربما أماكن أخرى فـي الوطن العربي، فجاء رد الفعل الإيراني عبر الشطر اليمني من ميدان صراع النفوذ، فكان الزحف المفاجئ لجماعة «أنصار الله»، بزعامة عبد الملك الحوثي، نحو صنعاء، والانهيار السريع لأجهزة الحكم.
هذا فـي الظاهر، لكن ثمة تحوّلات فـي المنطقة العربية بأسرها توحي بأن للمسألة جانبا آخر، خصوصاً أن التطورات المتسارعة على الساحة اليمنية قد جاءت فـي خضم الاستعدادات لتشكيل التحالف الدولي ضد تنظيم «داعش»، بقيادة الولايات المتحدة الاميركية، وتزامنت مع لقاء طال انتظاره بين وزيري الخارجية السعودي سعود الفـيصل والإيراني محمد جواد ظريف.
هذه التطورات السريعة أفضت الى تحوّل محوري فـي ميزان القوى داخل اليمن، حيث شدد الحوثيون قبضتهم على صنعاء، فـي هجوم خاطف يوم الأحد الماضي، انتهى بتوقيع اتفاق تسوية توسطت فـيه الأمم المتحدة، بهدف وقف المعارك، وتقاسم السلطة، فـي مرحلة انتقالية شديدة الحساسية، بعد اكثر من ثلاثة أعوام على إنطلاق الثورة الشعبية ضد نظام علي عبد الله صالح، الذي تنحى عن الحكم لصالح نائبه عبد ربه منصور هادي فـي إطار تسوية خليجية، ونحو عشر سنوات على انطلاق الحراك الحوثي من جبال صعدة النائية فـي شمال اليمن.
والى جانب ما حققه الحوثيون على المستوى الميداني، بعدما ظهروا كقوّة عسكرية لا يستهان بها، أمام الجيش الحكومي الممزق بالفساد والتجاذبات السياسية، وأمام الميليشيات القبلية المدعومة من آل الأحمر على رأسها «حزب الإصلاح» ذو التوجهات «الإخوانية»، فإن التحوّل الدراماتيكي فـي المشهد اليمني يعكس تبديلاً فـي موازين القوى السياسية لصالح الحوثيين، وهزيمة مدوّية لـ«الإخوان المسلمين»، تضاف إلى سلسلة هزائمهم التي بدأت فـي مصر، عقب سقوط نظام محمد مرسي فـي «ثورة 30 يونيو».
والواقع ان الهجوم الحوثي الكاسح على صنعاء قد شكل ضربة للجنرال محسن الأحمر، القائد العسكري النافذ سواء فـي عهد علي عبد الله صالح وفـي المرحلة الانتقالية التي تلت تنحيه فـي العام 2012. ويشكل هذا الهجوم امتداداً لهجوم سابق شنه الحوثيون على محافظة عمران، حيث سقط الجنرال حميد القشيبي فـي معارك طاحنة افضت الى سيطرة الحوثيين على كامل تلك المحافظة، ليخرجوا بذلك من معقلهم الرئيس فـي صعدة والجوف، علماً بأن هذا الثنائي العسكري شكل خلال العقدين الماضيين القاعدة الأساسية لقوة «الاخوان المسلمين» وآل الأحمر فـي الجيش اليمني.
وبالرغم من ان اتفاق التسوية، الذي رعاه المبعوث الأممي جمال بن عمر، قد جاء تحت شعار تقاسم السلطة السياسية، واستكمال خريطة الطريق، التي يرتقب ان تؤسس لنظام اتحادي فـي اليمن، بعد نحو ربع قرن على سيطرة الدولة المركزية، فإن أحداً لا يجادل فـي أن الكلمة الفصل فـي الحياة السياسية ستكون للحوثيين، وبدرجة اقل لـ«حزب المؤتمر الشعبي» الذي يتزعمه الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، والذي ما زال يحظى بغالبية فـي مجلس النواب (برغم القيود المفروضة على العمل البرلماني بموجب المبادرة الخليجية)، ويتمتع بنفود كبير فـي كافة مؤسسات الدولة العميقة.
ولا يقلل من حجم الهزيمة «الإخوانية» دخول «حزب الإصلاح» فـي التسوية الأخيرة، اذا ما علمنا ان من وقّع الاتفاق هو عبد الوهاب الانسي، الذي يمثل جناح التجّار فـي «الإصلاح»، وهو واحد من أجنحة ثلاث، تشمل ايضاً الجناح «الإخواني» (بزعامة ياسين القباطي) والجناح القبلي (بزعامة آل الأحمر).
ويضاف إلى كل ما سلف، ان الحوثيين قد كسبوا فـي الآونة الأخيرة دعم الحراك الجنوبي، فرضه الدعم الإيراني للجنوبيين فـي الآونة الأخيرة. ما يعني أن «انصار الله» قد باتت بشكل او بآخر الشريك الحاسم، إن لم يكن المهيمن، على النظام اليمني.
لكن المفارقة تكمن فـي ان مدينة صنعاء كانت تمثل خطاً احمراً إقليمياً ودولياً، على المستويين العسكري والميداني، وقد استبعد كثير من المراقبين ان يتم تجاوزه من قبل الحوثيين، الذين تنظر إليهم السعودية كمجموعة «إرهابية» و«تخريبية»، وذلك لأسباب سياسية (الصراع الإيراني-السعودي) ودينية (الصراع الزيدي-الوهابي)، وهو ما طرح تساؤلات عدّة خلال الأيام الماضية، حول موقف المملكة الجارة من تلك التطورات، والذي يختلف المحللون بشأنه بين من يقول إنه «مبارك» للخطوة الحوثية، وبين من يرى أنه «عاجز» تجاه ما جرى.
ولعل التفسير الأكثر واقعية لهذا الموقف السعودي الهادئ إذا ما استثنينا بعض الأصوات الإعلامية التي لا تقدم ولا تؤخر فـي مجرى الأحداث يمكن تلمّسه فـي تطور محوري على المستوى الإقليمي، وهو الحراك الديبلوماسي والعسكري الذي تقوده الولايات المتحدة لتشكيل تحالف ضد «داعش»، والذي فرض بشكل أو بآخر تقارباً سعودياً – إيرانياً، توّجه الفـيصل- ظريف فـي نيويورك فـي نفس اليوم الذي شهد سيطرة الحوثيين على صنعاء، وتوقيع اتفاق التسوية.
ورب قائل بأن ما جرى فـي اليمن، يلخص بمعادلة «صنعاء فـي مقابل الموصل»، غير ان المعطيات على ارض الواقع تشير إلى ان التحول فـي المشهد اليمني يبدو أقرب إلى ترجمة لتفاهمات إقليمية – دولية تفرضها المعركة ضد التفكيريين.
ولعلّ عامل المفاجأة ينتفـي إذا ما تم التدقيق فـي المقدمات الميدانية والسياسية التي افضت إلى سيطرة الحوثيين على صنعاء، فقد كان ملفتاً للانتباه ان السعودية لم تتحرك حين اجتاح مقاتلو «انصار الله»، محافظة عمران، بالرغم من ان تلك المنطقة تشكل معقلاً للتيار الوهابي.
وربما ينطلق هذا الموقف السعودي من تفاهمات الحرب السادسة، فـي آواخر عهد علي عبد الله صالح، والتي شهدت تدخلاً عسكرياً سعودياً مباشراً ضد الحوثيين على امتداد الحدود السعودية-اليمنية، والتي انتهت باتفاق تعهد فـيه الطرفان بعدم تجاوز هذه الحدود، علماً بأن زعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي قد وجه فـي الآونة الأخيرة رسائل مباشرة وغير مباشرة للرياض مفادها ان هذا الاتفاق لن يصمد فـي حال جرى اي تدخل سعودي ضد حراكه، مع الإشارة هنا إلى أن النظام السعودي يخشى ان تنفلت الامور، وتصبح بعض المناطق ذات الغالبية الشيعية على حدودها الجنوبية.
وربما ينطلق الموقف السعودي ايضاً من ان الرياض ربما باتت ترى، فـي إطار التفاهمات الإقليمية الدولية التي تصاغ فـي الأروقة الديبلوماسية، أن وجود الحوثيين قد يشكل حاجزاً بينها وبين جماعات تنظيم «القاعدة» الناشط فـي جنوب اليمن ووسطه، علماً بأن الفرع اليمني لـ«القاعدة» يناصب العداء للنظام السعودي – مع العلم ان معظم قياداته وعناصره هم سعوديون – وقد اشتد عوده بشكل مثير للانتباه خلال السنوات الماضية، حتى بات يشكل خطراً على المملكة نفسها.
وفـي العموم، فإن ما جرى فـي اليمن، وتزامناً مع التقارب فـي نيويورك، يؤكد ان السعودية وايران عازمتان على تنحية بعض خلافاتهما جانباً للتعامل مع عدو مشترك، يتمثل فـي «القاعدة» و«داعش»، وهو ما ألمح اليه الفـيصل عقب لقائه ظريف، حين قال أن «ثمة إمكانية تفادي اخطاء الماضي باستغلال هذه الفرصة الثمينة حتى يمكن التعامل بنجاح مع الازمة التي خلفها تنامي الخطر «الداعشي»»، وهو ما قابله الوزير الإيراني بالقول «نعتقد أنا ونظيري السعودي أن هذا الاجتماع سيكتب الصفحة الأولى من فصل جديد فـي العلاقات بين بلدينا بما يسهم بشكل فعال فـي إقرار السلام والأمن الإقليمي والعالمي ويؤمن مصالح الامم المسلمة فـي أنحاء العالم».
وظهرت اولى دلائل الانفراج فـي العلاقات السعودية-الإيرانية الشهر الماضي عندما رحبت الدولتان بتعيين حيدر العبادي رئيسا لوزراء العراق، بعد التقدم الخاطف لتنظيم «داعش»، والذي ارغم سلفه نوري المالكي، القريب من طهران، على التخلي عن رئاسة الوزراء، وبعدها من خلال الزيارة التي قام بها نائب وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى جدة.
وربما يفضي هذا التقارب خلال المرحلة المقبلة إلى تفاهمات اقليمية – دولية بشأن سوريا، وهو امر، إن حصل فعلاً، فسينسحب على لبنان بطبيعية الحال.
وبصرف النظر عن الآراء المختلفة بشأن ميزان الربح والخسارة بين الرياض وايران فـي سياق ما جرى فـي اليمن، لا يختلف اثنان على ان الخاسر الأكبر فـي هذا الحدث اليمني هو قطر، التي فقدت مجدداً احد وكلائها «الإخوانيين» فـي دول «الربيع العربي»، ما يكرّس، بشكل او بآخر، تراجع نفوذها الإقليمي، الذي سعت لبنائه طوال الأعوام الماضية، وأنفقت عليه مليارات الدولارات، ناهيك عن الإنهيار الكبير فـي مشروع «الأخونة» الذي سعت الإمارة النفطية، والعثمانية الجديدة فـي تركيا إلى فرضه على المنطقة العربية، التي يبدو انها مقبلة على اعادة رسم لخريطة النفوذ الاقليمي والدولي.
الحوثيون وفدرالية اليمن
أفضت مخرجات الحوار الوطني فـي اليمن إلى إقرار فكرة الدولة الاتحادية، التي ستتشكل من ستة أقاليم فدرالية، حددتها لجنة خاصة عينها الرئيس عبد ربه منصور هادي على النحو التالي:
ـ إقليم حضرموت، الذي يضم المهرة حضرموت وشبوة وسقطرى، وعاصمته المكلا.
ـ إقليم سبأ، الذي يضم الجوف ومأرب والبيضاء، وعاصمته سبأ.
ـ إقليم عدن، الذي يضم عدن وابين ولحج والضالع، وعاصمته عدن.
ـ إقليم الجند، الذي يضم تعز وإب، وعاصمته تعز.
ـ إقليم أزال، الذي يضم صعدة وصنعاء وعمران وذمار، وعاصمته صنعاء.
ـ إقليم تهامة، الذي يضم الحديدة وريمة والمحويت وحجة، وعاصمته الحديدة.
وجاء فـي مبادئ التقسيم الاتحادي انه «لضمان الشراكة الحقيقية فـي السلطة التشريعية لكل إقليم، يجب ضمان تطبيق مبدأ المداورة فـي هيئة رئاسة المجلس التشريعي، كما يجب ضمان التمثيل العادل لكل ولاية فـي البرلمان الاتحادي. ولضمان الشراكة الحقيقية فـي السلطة التنفـيذية لكل إقليم، يجب ضمان عدم سيطرة ولاية بعينها على التشكيل الحكومي فـي الإقليم».
وبرغم موافقتهم على فكرة الفدرالية، إلا ان التقسيم المقترح للأقاليم لم يرض الحوثيين، الذين يريدون أن يمتد الإقليم الذي يمتلكون تواجداً كثيفاً فـيه إلى محافظة حجة، بالنظر إلى اعتبارات مذهبية، وربما إلى محافظة الجوف حيث حقول النفط والغاز، كما يطالبون بمنفذ على البحر الأحمر.
ومن المؤكد ان التحوّل فـي موازين القوى لصالح الحوثيين سيجعلهم ابتداءً من اليوم قادرين على فرض معادلتهم فـي ما يتعلق بالفدرالية، ومن شأن ذلك ان يؤدي إلى إعادة النظر فـي تقسيم الأقاليم، مع مراعاة شروطهم، التي ينظر إليها كثيرون على انها كانت المحرّك الأساس لانطلاق حراكهم الأخير.
الحوثيون .. من صعدة إلى صنعاء
الحوثيون .. اطلقت هذه التسمية عليهم تيمناً بزعيمهم الروحي الراحل بدر الدين الحوثي، وزعيمهم السياسي حسين بدر الدين الحوثي، الذي قتل على يد الجيش اليمني فـي العام 2004، ليخلفه الزعيم الحالي عبد الملك بدر الدين الحوثي.
وفـيما يتخذ الحوثيون حالياً بشكل رسمي اسم «انصار الله»، فإن الكيان السياسي الذي انشأوه منذ زمن قصير الا ان الكيان السياسي الاول الذي اسسوه كان حركة «الشباب المؤمن» (1992).
يرى البعض أنّ أوّل ظهور لتيار الحوثيين كان فـي أواسط الثمانينات عندما أسس الشيخ صلاح أحمد فليته عام 1986 ما عرف حينها بـ«اتحاد الشباب المؤمن»، ويقال أنّ أعضاء هذا التيار كانوا يدرسون الثورة الإيرانية على يد محمد بدر الدين الحوثي.
ومنذ أواسط التسعينات ارتبط اسم الحوثيين بحسين بدر الدين الحوثي، الذي انضم بعد الوحدة بين الشمال والجنوب إلى «حزب الحق» الزيدي وانتخب ورفـيقه عبد الله الرزامي فـي البرلمان عام 1993 لكنهما عادا وانشقا عن الحزب نتيجة لخلافات داخل الزيدية بين تيار تقليدي، مثله الشيخ مجد الدين المؤيدي، والتيار التجديدي الذي شكل منتدى «الشباب المؤمن» إطاراً له.
وفـيما كان التوجه داخل الحركة على النشاط التثقيفـي، كان الحوثي مولعاً بالعمل الحركي، فأطلق شعاره الشهير «الله أكبر الموت لأميركا الموت لإسرائيل»، «اللعنة على اليهود»، «النصر للإسلام»، وذلك كرمز سياسي، مستلهماً سلسلة من التغيرات فـي المنطقة لاسيما انتصار المقاومة فـي جنوب لبنان واندلاع الانتفاضة الثانية فـي فلسطين.
وقد اغضب هذا الشعار الاميركيين، وتسبب بإحراج كبير لعلي عبد الله صالح، وعلى خلفـيته خاض الحوثيون بين 2004 و2010 ست حروب مع صنعاء خصوصا فـي معقلهم الجبلي فـي صعدة، آخرها مع السعودية (2009- 2010).
وتعيد الظاهرة الحوثية اشباح ماضي الإمامة الزيدية مع تاكيد آل الحوثي انتماءهم الى آل البيت وانتسابهم الى ارث ائمة الممالك الزيدية التي حكمت شمال اليمن طوال الف عام تقريبا، الى ان اطاحتها ثورة العام 1962.
لكن الحوثيين ينفون اي مخطط لاستعادة حكم الأئمة، كما ينفون تحولهم من المذهب الشيعي الزيدي إلى المذهب الشيعي الاثني عشري، وهو ما يحاول خصومهم الترويج له، لسببين أولهما سياسي (العلاقة مع ايران)، وثانيهما عقائدي (التقاطع بين المدرسة الجارودية فـي الزيدية وبين المذهب الجعفري).
والواقع ان الحوثيين اظهروا خلال السنتين الماضيتين ما يكفـي لإظهار انهم حركة مستقلة، غير منعزلة فـي البيئة الزيدية، حيث اقاموا تحالفات مع قبائل زيدية وسنية معادية لتكتل حاشد القبلي النافذ وخصومهم الابرز آل الاحمر.
كما استطاعوا ان يحدثوا تغييرا فـي صورتهم مع مشاركتهم بشكل فعال فـي الانتفاضة الشعبية ضد نظام صالح فـي 2011، وعبر رفع لواء مناهضة سيطرة تكتل حاشد على الحياة السياسية.
Leave a Reply