بقلم: فاطمة الزين هاشم
الخبز لقمة العيش السائغة التي يتمتع بها الإنسان، لتصل به إلى حالة الإشباع التي تحرّره من بين أنياب ومخالب وحش الجوع، وهو الكلمة التي اختصر فيها سيّدنا المسيح عليه السلام كلَّ أنواع الطعام حين قال «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»، كما أنّ الخبز كان سبباً في تظاهرتين ضخمتين في تأريخ البشريّة، الأولى في العام 1789التي تحوّلت إلى ثورة أسقطت سجن الباستيل، بعد أن خرج الشعب الفرنسي مطالباً الملكة ماري انطوانيت بالخبز، فقالت كلمتها الساذجة الشهيرة «لماذا الشغب؟ إذا لم يجدوا الخبز فليأكلوا البسكويت»، فأخذت منها تسمية أشهر ماركة عالمية للبسكويت وهي «بسكت ماري»، أما التظاهرة الثانية فكانت (النسائيّة) في العام 190٨ بمدينة نيويورك والتي حملت عنوان «تظاهرة الخبز والورود» وحصلت المرأة من نتائجها على الكثير من حقوقها وبالأخصّ حقّ التصويت والإقتراع، كما اتّخذ نصف تسمية رواية اشتهرت في القرن التاسع عشر بعنوان «بائعة الخبز» التي كتبها الروائي الفرنسي «كزافيه دو مونتبان»، وأثار الخبز شهيّة الشعراء العرب فكتب جوزيف حرب قصيدته «الخبز والورود» التي لحّنها وأنشدها الفنّان الشهير مارسيل خليفة، وقبله كتب الشاعر محمود درويش على وقع «قصيدة الخبز»، كما أنّ الخبز قد قُرِن بالملح كدلالة على ديمومة وصفاء العِشرة الطيّبة بين الناس والأحباب، وسموّ العلاقات البشريّة. وقد وردت مفردته وحيدةً في القرآن الكريم، اختصت بتأويل الأحلام كما في سورة يوسف (٣٦) {وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل منه الطير}.
ولاشك في أنّ الخبز هو اللقمة الحاضرة في كلّ وجبة، وفي كلّ بيت، وعلى كلّ طاولة طعام، إذ يتصدّر بقيّة أنواع الأطعمة، وأصبح للأسف الشديد معرّضاً لفقدان المواصفات التي كان عليها سابقاً، حيث استوقفني أحد القرّاء قائلاً : «لماذا لا تتناولون المواضيع التي تهمّ كلّ فرد من أبناء الجالية والمجتمع؟» فسألته بحفاوة: «أي موضوع تقصد؟ فإذا كان يستحقّ الإهتمام، تأكّد بأنّني سأتناوله وأسلّط الضوء عليه»، قال: «الخبز الذي طاله الغشّ، نشتري ربطة الخبز في الصباح، وما إن يأتي المساء حتّى يتغيّر شكلها وتصبح ناشفة غير قابلة للفِّها أو طيِّها، وتتكسّر كالحطب القديم الذي أيبسته حرارة الشمس، رفعوا سعر الخبز ولم يعترض أحد، قلّصوا حجمه، أيضاً لا اعتراض، لكن أن يتعرّض للغشّ في صنعه ومكوّناته فتلك مسألة تستدعي التوقّف عندها والإعتراض عليها، ولست أدري هل أنّ السبب في ذلك هو الضمير الذي أخذ إجازة مفتوحة، أم اختيار النوع الرخيص من الطحين بغية تحقيق أعلى ربح، أم أسباب أخرى؟».
كان الرجل يتكلّم بحدّة وانفعال شديدن، ثمّ واصل حديثه: «تصوّري أنّني وُضِعتُ في موقف محرج جدّاً حينما دعوت أصدقائي إلى منزلي لتناول العشاء مساء البارحة، بعد أن كانت زوجتي قد أحضرت الخبز صباحاً من أحد الأفران، ووضعته على طاولة العشاء، تناول أحد المدعوّين رغيفاً بيده يريد أن يأكل، فتكسّر الرغيف بمجرّد لمسه، ونظر إليَّ بظرافة، مداعباً بقوله هل جلبتم هذا الخبز من الصومال؟ ضحك الجميع لظرافته، بعدها دار النقاش حول نوعيّة الخبز المتداولة في الأسواق، فاكتشفتُ –والحديث مازال لصاحب المشكلة – أنّ الجميع يعاني من نفس المشكلة، والجميع متذمّر من تصرّف القائمين على الأفران بسبب رداءة النوعيّة التي تعرض على خلق الله دون رحمة».
وإذا كان صاحب المشكلة هذا، وهو نموذج لعدد لا يحصى، قد آلمته أيلولة الخبز المخيّبة، ونغّصت عليه فرحة اللقاء بأصدقائه، والتمتّع بالعشاء الذي أخذ وقتاً وجهداً من زوجته في تحضيره، فالمسألة تكاد تنسحب على الجميع فهي في هذه الحالة تتّخذ شكل التعميم، ومن ثمّ لفت النظر إليها لأنّها تطالهم وتهمّهم، ومن هنا أصبحت الكرة في ملعب أصحاب الأفران بأخذ زمام المبادرة في تغيير نوعيّة الخبز نحو الأفضل، وتحسينها لتصل إلى الزبائن بمستوى الجودة المطلوبة، ولا نشكّ في أنّهم سيراعوا الله في لقمة العيش، ويعيدوا للمستهلك ثقته بهم، ورحم الله امرءاً عمل عملاً فأتمّه، والإتمام هنا يتضمّن التحسين والإجادة والإتقان.
Leave a Reply