بيروت –
“لو دامت لغيرك لما آلت إليك”، شعار رفعه الرئيس الراحل رفيق الحريري على مدخل السراي الحكومي، عند تدشينها بعد ترميمها في 1998، هو العام الذي خرج منه من رئاسة الحكومة، في أول عهد الرئيس إميل لحود، إذ رفض أن يودع النواب أصواتهم، في الاستشارات النيابية الملزمة، لدى رئيس الجمهورية التي يجيّرها هو، وقد حصل خلاف دستوري حول هذه الممارسة التي لم تجد لها تفسيراً في الدستور، فرفض الحريري الأب العملية الدستورية، واعتبرها انقلاباً عليه وفخاً له لإحراجه وإخراجه من السراي، وقد تطلع إلى اللوحة الرخامية التي كتب عليها ذلك الشعار، واقتنع بتداول السلطة، وانكفأ إلى المعارضة، وهو ما لم يرق لوريثه السياسي نجله سعد، الذي وعندما خسر الأكثرية النيابية في الاستشارات، لجأ إلى الشارع واحتكم إلى الخطاب المذهبي، مدعوماً من المفتي محمد رشيد قباني ومجلس مفتين، سموه رئيساً للحكومة، قافزين فوق المؤسسات الدستورية المدنية، مقحمين الدين بالسياسة، رافعين شعاراً طائفياً، يتحدث عن حقوق السنة، ومن يمثلهم، وقد التقوا مع ما قاله وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط “إن حقوق السنة في لبنان تهدر” وتبع ذلك أن إعلام “تيار المستقبل” وحلفاءه في “14 آذار”، روجوا لمعلومات، بأن الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله، هو من سمى رئيس الحكومة السني، وهو فرض رأي للشيعة على الطائفة السنية، التي يمثلها الحريري الذي حاز على أكبر عدد من النواب السنة، إضافة إلى نواب آخرين، يمثلون حوالي ثلث عدد مجلس النواب.
فوجئ الحريري، بترشيح الرئيس نجيب ميقاتي لرئاسة الحكومة، وكان ينتظر أن يبقى النائب وليد جنبلاط مؤيداً له، وأنه سيعطيه أصوات “اللقاء الديمقراطي” الذي انقسم 7 مع رئيسه و4 ترأسهم النائب مروان حمادة، بعد أن أبلغ جنبلاط أعضاء اللقاء أنه سعى إلى أن يتوفر حل يحافظ فيه الحريري على موقعه، وهو أمل أن يطبق الاتفاق السوري-السعودي، وأن تخرج التسوية قبل صدور القرار الظني عن المدعي العام في المحكمة الدولية دانيال بيلمار، ولم يتجاوب رئيس حكومة تصريف الأعمال مع هذه المساعي، بفعل الضغوط الأميركية، فاضطر رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وانسجاماً مع قناعاته السياسية، وبسبب عوامل الجغرافيا السياسية، التي أملت عليه ان يعود إلى موقعه الوطني والقومي الطبيعي في تأييد المقاومة والتحالف مع سوريا، والوقوف ضد الأحلاف الغربية، وهو الطريق الذي سلكه كمال جنبلاط، فقرر أن يكون إلى جانب مرشح المعارضة، التي كانت تتجه إلى تسمية الرئيس عمر كرامي، لمواجهة تداعيات المحكمة الدولية وقراراتها، وإلغاء مفاعيلها لبنانياً، وهو ما كان وافق عليه الحريري، وتنصل منه، بعد أن رفضت المعارضة منحه سلطة واسعة في الحكم، فأسقط بذلك التسوية التي أرساها كل من الرئيس السوري بشار الأسد والعاهل السعودي الملك عبدالله.
سقطت التسوية، وصدر القرار الاتهامي قبلها، بعد أن حوله بيلمار إلى قاضي الإجراءات التمهيدية دانيال فرانسين، ودخل لبنان في مرحلة ما بعد القرار الاتهامي، ولم يعد يصلح أن يكون الحريري رئيساً للحكومة، وقررت المعارضة إسقاط حكومته دستورياً، وهو ما حصل، وبدأت الوساطات الخارجية والتدخلات لإبقائه في السلطة، إلا أن جواب السيد نصر الله كان حاسماً، لن نوافق على الحريري رئيساً للحكومة، فرد الأخير “أنا أو لا أحد” وبدأت عملية احتساب الأصوات لمرشح المعارضة التي كان الرئيس كرامي، يتقدم الأسماء عندها، إلى أن ظهر الرئيس ميقاتي في الربع الساعة الأخيرة، وقد لعب الرئيس نبيه بري دوراً في تسويقه وساعده النائب جنبلاط، ولم يضع الناب العماد ميشال عون “فيتو” عليه، وإن كان يفضل أن يكون الوزير محمد الصفدي في هذا الموقع، وهو رشحه قبل وبعد اتفاق الدوحة، لكن الظروف لم تسمح بمجيئه، وقد نجحت الاتصالات الداخلية بين أطراف المعارضة السابقة، مع اتصالات خارجية عربية ودولية، لاسيما مع سوريا والسعودية وقطر وتركيا وفرنسا، وجاءت الردود إيجابية لصالح ترؤس ميقاتي للحكومة، وكان التحفظ أميركياً، والرفض إسرائيلياً من أن ميقاتي فرضه “حزب الله” وهي اللغة التي تحدث بها فريق “14 آذار”، وقاد حملة إعلامية، أرفقها بأعمال شغب في الشارع، من قطع طرقات وترهيب لنواب طرابلس، بإحراق مكتب الوزير محمد الصفدي، إلى رفع شعارات مذهبية، تدعو السنة إلى مواجهة الشيعة، ولكن هذه الممارسات الهمجية، التي فضحت “تيار المستقبل” الذي كان رئيسه يدعو إلى أن تأخذ اللعبة الديمقراطية مداها ضمن المؤسسات الدستورية، فإذا به يوجه جماعته إلى الشارع الذي يأخذ على المعارضة أنها لجأت إليه في 7 أيار 2008 وتهدد به دائماً، وهي اضطرت أن تقوم بذلك، للدفاع عن المقاومة بوجه قرار حكومة فؤاد السنيورة بطلب تفكيك شبكة اتصالات المقاومة، في حين أن “تيار المستقبل” تحرك للحفاظ على موقعه في السلطة التي انهارت دستورياً، مع تغير التحالفات السياسية، التي بدأها جنبلاط تدريجياً بعد أحداث أيار 2008، وتوّجها في 2 أب 2009، وطبقها في الاستشارات النيابية في 25 كانون الثاني 2011، وأعطى سبعة أصوات للرئيس ميقاتي الذي نال دعماً من المعارضة التي رأت فيه، أنه يمكنه أن يواجه الحالة المذهبية التي افتعلها “تيار المستقبل” بالتنسيق مع المفتي قباني، ولا يمكن التشكيك بحضوره الشعبي في الطائفة السنية، إذ نال في طرابلس أعلى الأصوات السنية، متفوقاً على مرشحي المستقبل بحوالي عشرين ألف صوت، ومثله النائب الصفدي الذي أيّد وصول ميقاتي، الذي يتمتع بعلاقات عربية وإقليمية ودولية، تؤمن له غطاءً خارجياً وتعطيه دوراً سيلعبه في موضوع إلغاء مفاعيل المحكمة الدولية على الصعيد الداخلي لجهة المطلوب منها أميركياً وإسرائيلياً هو إشعال فتنة بين اللبنانيين وإذكاء صراع سني-شيعي، يكون الهدف منه ضرب المقاومة، وتشويه نضالها وسلاحها.
فدعم المعارضة لترشيح ميقاتي لرئاسة الحكومة، كانت قراءة صحيحة إذ وفرت بوصوله إمكانية مواجهة الفتنة ومنع حصولها، كما أنها تكشف موضوع شهود الزور، الذين فُبرِكوا بمعرفة الحريري نفسه، وهو من أدار جلسات مع الشاهد الزور محمد زهير الصديق، وتفاوض معه، وخضع لشروطه وطلباته، وكان الحريري يتصدى لإحالة ملف هؤلاء الشهود إلى المجلس العدلي، لأنه سيخضع للمساءلة أمامه، وسيتم فتح صفحة حول من اغتال والده، وهو ما ستقوم به الحكومة الجديدة برئاسة ميقاتي، الذي لم يكشف عن هوية ولون حكومته، وإن كان حددها بأن تكون مطعمة بسياسيين وتكنوقراط، على شاكلة حكومته التي شكلها في ربيع 2005، بعد استقالة حكومة الرئيس كرامي إثر اغتيال الحريري، وهي كانت انتقالية، لإجراء الانتخابات النيابية، تحت ضغط إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش، الذي كان يطرح مشروعه “للشرق الأوسط الجديد” ونشر الديمقراطية، واعتبر لبنان مختبراً في هذا المشروع عبر ما سمي “ثورة الأرز”.
فترؤس ميقاتي لحكومة تخلف حكومة الحريري الابن، يشابه ترؤس الرئيس سليم الحص لحكومة الحريري الأب، في نهاية العام 1998، وفي المرحلة السابقة والمرحلة القادمة، فإن المطروح هو تغيير نهج مدرسة سياسية واقتصادية واجتماعية اعتمدت منذ وصول رفيق الحريري إلى الحكم في نهاية 1992، ولم تنتج سوى تحميل لبنان أعباء ديون، وصلت إلى حوالي 64 مليار دولار، مع خدمة دين سنوية تصل إلى حوالي أربعة مليار دولار وتزداد سنوياً، فوضعت اللبنانيين أمام أعباء كبيرة، ودون مردود داخلي على صعيد الإنماء والخدمات والبنى التحتية، حيث مازالت الكهرباء شبه معدومة ولبنان مهدد بالظلام باعتراف الوزير جبران باسيل، ودخوله في مرحلة الجفاف إذا لم تقم الدولة ببناء السدود، إضافة إلى تراجع التقديمات الاجتماعية والصحية التربوية، وانحدار المؤسسات التي تقدم هذه الضمانات.
فالحريرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى أفول، وقد حكمت لبنان لنحو 18 سنة، انقطع عنها الحريري الأب عن السلطة، لحوالي عامين منذ توقيع اتفاق الطائف، وأن المعارضة لنهج الحريرية تنوعت خلال هذه الأعوام، وأن بعض من أصبح حليفاً لهذه الحريرية بعد اغتيال مؤسسها، كانوا ضدها ومنهم نسيب لحود وبطرس حرب، وقوى سياسية وحزبية هي في قوى “14 آذار”، حتى أن جنبلاط كان يرفض السياسة الاقتصادية والمالية والاجتماعية للحريري، واعترض على مشاريع الخصخصة وإفقاد الدولة لدورها في الرعاية الاجتماعية لمصلحة الشركات الخاصة.
إن لبنان دخل في مرحلة جديدة، في إخراج حكم الشخص والعائلة من السلطة، التي استخدمت لتمرير مشاريع شخصية، مثل “سوليدير” و”سوكلين” والهاتف الخلوي وغيرها من المشاريع التي أغرقت اللبنانيين بالرسوم والضرائب، وشكلت أعباء عليهم للكلفة العالية التي يتكبدونها.
فالحريرية تخرج من السلطة وعلى قوى الإصلاح والتغيير وتطبيق القانون وإقامة المؤسسات وتعزيز الرقابة والمساءلة والمحاسبة، أن تثبت أن شعاراتها التي كانت ترفعها وتطالب بتنفيذها عليها أن تضعها موضع التطبيق، لأن أمام الحكومة الجديدة، مهام كثيرة على المستوى الخارجي والداخلي، فهي ستواجه ضغوطاً أميركية وغربية تحت عنوان رفعه الرئيس ميقاتي وهو حماية المقاومة وإنجازاتها، ويكفي هذا ليثير عليه هذا الكم من “الغضب” الداخلي، الذي تم التعبير عنه في الشارع الذي حركه “تيار المستقبل”، وتحاول قوى “14 آذار” أن تستعيد مرحلة 2005، والعودة إلى ساحة الشهداء لتنظيم اعتصامات وتحركات، يكون هدفها هذه المرة المقاومة وسلاحها، وهو البند الذي تعتبره أميركا وإسرائيل وحلفاؤها أنه لم يطبق في قرار مجلس الأمن الدولي 1559، وهي المواجهة المفتوحة منذ العام 2004، ولم تتوقف وكانت حرب تموز 2006 الإسرائيلية إحدى تجليات هذا القرار – الفتنة.
انه الخروج الثالث لآل الحريري من رئاسة الحكومة، فخرج الأب عند انتخاب الرئيس لحود، عام 1998، ثم بعد التمديد للحود عام 2004، وها هو الابن يترك السلطة، وقد تكون عودته اليها متأخرة كثيرا، وهذا ما سيؤثر على الحريرية السياسية واستمراريتها، بعد سلسلة من الخسائر السياسية التي تعرض لها في السنوات الخمس الأخيرة وسوء الإدارة.
Leave a Reply