ربما كانت عبارة “الشعر ديوان العرب” من أكثر العبارات تعبيرا وتدليلا على مكانة الشعر في الثقافة العربية، بوصفه حاملا لتجربة الإنسان العربي ببعديها الوجداني والشعوري، ومنجزا ثقافياعابرا للقرون الخمسة عشرة..
والحال، أن العرب عرفوا في القرن الماضي أنواعاً من الفنون، فإلى جانب الفنون الكتابية الأخرى كالقص والرواية، عرفوا المسرح والسينما وأخيرا.. التلفزيون، لكن الشعر ظل يمثل “حالة وجدانية” عند العربي، حالة يختلط فيها الحنين مع التطلع، الأصالة مع الحداثة، الماضوية مع المعاصرة، من دون أن يكون بوسع الفنانين والنقاد والمنظرين (والجمهور أيضا) فض الاشتباك.
والمتابع لحركة الشعر العربي الحديث يعرف تماماً مدى الإرهاصات والمشكلات التي أصابت هذه الحركة الشعرية.. وما لذلك من آثار في المستوى الملموس والعياني، ليس أقلها انحسار الشعر إلى المواقع الخلفية. المسرح ليس أحسن حالاً، وكذلك السينما، والناجي الوحيد هو التلفزيون بلا منازع، مع أن بعض المؤسسات الرسمية، وبعض الشعراء ما زالوا يعلنون بمكابرة أن الشعر ما يزال ديوان العرب!
“اعطني مسرحاً.. أعطك شعباً”.. هذه أيضاً عبارة شائعة عند جمهور المسرح وعشاقه ومريديه، وعند السينمائيين “السينما هي فن العصر”. والحال أن المسرحيين أخذوا الفرصة كاملة، ولكنهم لم يعطونا شعباً، مع الاعتراف بالصعوبات التي واجهوها. السينمائيون أخذوا فرصة مماثلة بالتأكيد، والشعراء، والروائيون، والموسيقيون.. الجميع أخذوا الفرصة لكنهم لم يبدلوا في واقعنا التعيس قيد أنملة. والمضحك المبكي أن السؤال عن الوظيفة الاجتماعية للفن.. مازال قائماً ومشاكساً.. وبليداً.
إذا سلمنا أن الشعراء والمسرحيين والسينمائيين لم يأخذوا الفرصة المناسبة حقاً، فما الذي يمكن أن يفعلوه إذا ما منحوا فرصة أخرى؟ من غير المنتظر.. أن نحظى بأجوبة جديدة. المقولات السابقة نفسها سوف تتكرر عن “تعرية الواقع” و”نقد السلبيات” و”فضح الممارسات الخاطئة” و”شحذ الهمم”. وإذا كنا محظوظين أكثر فربما نسمع شيئاً عن “تنمية الحس الجمالي” ولا بأس أن تبقى “المسألة الأخلاقية في الفن” مسألة شائكة ومحط اختلاف في وجهات النظر.
الدراما التلفزيونية هي ديوان العرب الآن، وبنظرة بسيطة يمكن أن نتفق أن العرب بثوا خلال شهر رمضان الأخير وحده مئات الساعات الدرامية التي تابعها عشرات الملايين في العالم العربي. فشل نزار قباني والشعراء الآخرون أن يجعلوا من الشعر “خبز وماء” الشعوب العربية، ونجح الدراميون في وقت قصير بذلك، والأسباب كثيرة منها الموضوعي ومنها الذاتي، ولا مجال لمناقشتها ها هنا..
والمثير.. أن الدراما العربية تتلطى خلف الدوافع ذاتها.. فهي “تعري الواقع” و”تفضح الفساد” و”تشحذ الهمم” و”تنمي الحس الجمالي”. لكن الفارق .. أن الدراميين أكثر تواضعاً، فهم لم يرفعوا شعارات طنانة، ولم نسمع أحداً منهم يتحسر قائلاً: “اعطني تلفزيوناً.. أعطيك شعباً”! الدراميون يعملون من أجل استثمار “الموسم الرمضاني” من دون أن يخطر في بالهم أن يغيروا الأوضاع، أو يحدثوا الثورات، أو يبدلوا الواقع.
الفن يرصد التغير وتحولات الواقع بلا شك، لكنه لا يستطيع أن يغير في مجرى الأمور. هو في أحسن الأحوال جرس إنذار. ولقد كان الشعر ديوان العرب طوال قرون عديدة لكنه لم يعصمنا من الحال الذي انتهيا إليه. الدراما التلفزيونية.. تفعل الشيء ذاته، وإذا وافقتم أنها أصبحت ديوان العرب، فهذا بحد ذاته دليل على أننا تغيرنا كثيراً. فهل آن الأوان لكي نخلع جلدنا القديم؟
Leave a Reply