للسعودية دور في لبنان، لكن لم يكن لها نفوذ فيه حتى دخلت إليه من باب اتفاق الطائف. إذ لم يذكر أن المملكة كانت مؤثرة فيه في الخمسينات أو الستينات من القرن الماضي، حيث كان الفعل لمصر في عهد الرئيس جمال عبدالناصر الذي لم يكن على وفاق مع المملكة وسياساتها في المنطقة، وقد تمكن تياره العروبي من استقطاب أهل السّنّة في لبنان الذين ناصروا الدعوة للوحدة العربية، لاسيما التجربة التي قامت بين مصر وسوريا تحت اسم «الجمهورية العربية المتحدة».
فالتأييد الإسلامي –والسّنّي تحديداً– لعبدالناصر نشأ عنه ما سمي بـ«الناصرية» التي تحتها قامت تنظيمات سياسية سرعان ما انحسرت بعد وفاة الزعيم المصري عام 1970، ليتقدم الدور الفلسطيني في السبعينات، ولاحقاً السوري الذي ترسخ نفوذه في لبنان خلال الثمانينات والتسعينات، وحتى العام 2005.
السعودية والحرب
لعبت السعودية أدواراً متعددة لإنهاء الحرب الداخلية في لبنان بدأت بمبادرة أطلقت في نهاية السبعينات، لوقف القتال بين اللبنانيين الذين انقسموا بين قوى اليمين الانعزالية والقوى الوطنية المتحالفة مع الفلسطينيين. لكن سفير المملكة في لبنان علي الشاعر تعرّض لمحاولة اغتيال أثناء انتقاله في طائرة مروحية فوق المنطقة الشرقية فأجهضت المبادرة.
عاودت المملكة محاولاتها إطفاء الحريق في لبنان، غير أنه تم اتهامها من القوى اليسارية بدعم اليمين المتمثل بـ«الجبهة اللبنانية» وتحديداً «حزب الكتائب»، في إطار «التصدي للمد الشيوعي»، والتحالف مع أميركا التي كانت تخوض الحرب الباردة مع القطب الدولي الآخر الإتحاد السوفياتي.
فالدور السعودي خلال سنوات الحرب اللبنانية، كان بين مدّ وجزر، إذ كان يتقدم أحياناً ثم يتراجع، وفق التطورات الإقليمية والدولية، ولكنه سرعان ما بدأ يتوسع بعد الإجتياح الإسرائيلي للبنان في حزيران 1982، حيث أوفدت المملكة، الشيخ رفيق الحريري، موفداً باسمها ولم يكن معروفاً سياسياً سوى أنه رجل أعمال لبناني في السعودية، جنى ثروة وبدأ يقوم بمشاريع في مدينة صيدا وشرقها حيث أقام مجمعاً تربوياً في منطقة كفرفالوس، ليسطع نجمه في عهد الرئيس أمين الجميّل، بأن قام بإزالة المتاريس والدشم من وسط بيروت، ورفع شعار إعادة إعمار العاصمة.
استغلّت السعودية خروج القوات السورية من بيروت إلى البقاع في الثمانينات، لتدخل على خط حل الأزمة اللبنانية التي اندلعت في إطار صراع القوى الوطنية ضد حكم «حزب الكتائب» الذي مارس أعضاؤه مع «القوات اللبنانية» خلال الثمانينات أعمالاً انتقامية واسعة ضد القوى الوطنية بقتل وخطف عناصرها، حتى غلبت كفة المقاومة الرافضة للصلح مع العدو الإسرائيلي الذي كان لا يزال يحتل أجزاء كبيرة من لبنان. تصاعدت المقاومة ضد الاحتلال الذي بدأ بالانسحاب من مناطق لبنانية، ومنها الجبل الذي سرعان ما اشتعلت فيه جبهة حرب لم تتمكن السعودية من إخمادها بالرغم من رعايتها لمؤتمرين للحوار في جنيف ولوزان عامي 1983 و1984، بمشاركة سوريا، إلا أن الكلمة الفصل كانت للمعارك العسكرية التي حسمت الوضع لصالح الحزب التقدمي الإشتراكي وحركة «أمل»، وقد أخرجا سلطة الكتائب من بيروت الغربية، وبعدها الجبل ومناطق لبنانية أخرى، بعد حركة 6 شباط في العام 1984.
الحرب الباردة والطائف
مع الإنتصارات العسكرية التي حققتها القوى الوطنية، ومحاصرة الجميّل في القصر الجمهوري، وإسقاط إتفاق 17 أيار الذي كان لبنان يتّجه إلى عقده مع العدو الإسرائيلي، تراجع الدور السعودي إلى الكواليس ليظهر مجدداً في مرحلة ما بعد انتهاء عهد الجميّل.
كانت القوى اللبنانية قد أنهكتها الحرب وسعت سوريا إلى وقفها عبر الإتفاق الثلاثي، كما تحركت اللجنة الثلاثية العربية، وبدأت أوراقٌ لصيَغ حلّ تظهر، إلى أن صدر القرار الدولي بوقف الحرب في لبنان، مع ظهور بوادر تحوّل في الاتحاد السوفياتي في عهد الرئيس ميخائيل غورباتشوف، بإتجاه «إعادة البناء» (البيريسترويكا) و«الانفتاح» (غلاسنوست) نحو نظام رأسمالي وليس اشتراكياً، وكان ذلك بداية انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية، وظهور الآحادية الدولية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
وقد ساهم انتهاء الحرب الباردة في إنهاء الحرب في لبنان، فأعطي الضوء الأخضر الأميركي للسعودية لعقد مؤتمر للحوار يحضره النواب اللبنانيون وتتلى عليهم وثيقة وفاق وطني كانت وافقت عليها واشنطن عبر سفيرتها في العراق إبريل غلاسبي، وأيّدها الفاتيكان بعد أن عرضها عليه رئيس مجلس النواب آنذاك حسين الحسيني وقبل بها البطريرك نصرالله صفير، فتمّ التوقيع على اتفاق الطائف الذي اعترض عليه العماد ميشال عون المقيم في القصر الجمهوري، ورفض الاعتراف بالشرعية الجديدة التي تمثّلت بانتخاب رئيس الجمهورية رينيه معوّض الذي تم اغتياله ليخلفه الرئيس الياس الهراوي.
س–س
هكذا فرضت السعودية نفسها لاعباً أساسياً في لبنان من خلال اتفاق الطائف، ولم يكن لإيران حينها الدور المؤثر، بالرغم من أنها أنشأت «حزب الله» في لبنان الذي انخرط في المقاومة، وسجل عمليات بطولية ضد العدو الإسرائيلي دون أن يكون له دور سياسي فاعل، إذ كانت «حركة أمل» هي الأقوى شيعياً، بعد صراع مع «حزب الله» انتهى بتسوية خرجت بموجبها «أمل» وأحزاب أخرى من المقاومة المسلحة، ليبقى «حزب الله» هو الأساس، مما ثبّت النفوذ الإيراني في لبنان، ولكن دون تعارض مع النظام السوري الذي كان يشارك السعودية السلطة في لبنان من خلال ترؤس رفيق الحريري للحكومة، وقد أمسكت سوريا الساحة اللبنانية الداخلية فيما كانت الرياض فاعلة في الكواليس بغطاء أميركي للقيادة السورية، بعد أن وافق الرئيس حافظ الأسد على المشاركة مع التحالف الدولي في الحرب ضد العراق أثناء غزوه للكويت.
الاستفراد السوري
استفردت سوريا بالقرار في لبنان وخرجت السعودية ودول أخرى من موازين اللعبة الداخلية، لاسيما بعد أن حصلت القطيعة الخليجية مع الرئيس العراقي صدام حسين، واعتبار واشنطن أن دمشق هي المرجعية العربية، مع تقلص دور مصر وعدم فاعلية السعودية، فتحولت سوريا رقماً صعباً في المعادلة الإقليمية والدولية وباتت هي الآمر والناهي في لبنان مع الأخذ في الاعتبار المصالح الخارجية التي سرعان ما تبدلت توجهاتها بعد ارتباط دمشق بتحالف مع إيران، وبمعاهدة مع روسيا، وهو ما أقلق أميركا ودول الخليج، بأن النظام السوري يفتح الطريق لإيران نحو المتوسط ويقوي وجودها العسكري والسياسي في لبنان، من ضمن مخطط لإقامة «هلال شيعي»، يمتد من طهران إلى بغداد فدمشق وبيروت، وروّجت له دول عربية ومنها الأردن الذي حذّر ملكه عبدالله بن الحسين، من هذا «المشروع الإيراني» الذي تصدى له صدام حسين في حربه مع إيران.
لبنان ساحة لمن؟
ومع توسع النفوذ الإيراني وعدم تمكن أميركا وإسرائيل من وقفه، لاسيما وأنه يأخذ من فلسطين قضية له، بدعم حركات المقاومة، فكانت الحرب الإسرائيلية على لبنان صيف 2006، ثم الحرب على سوريا، والعقوبات على إيران على خلفية البرنامج النووي، إذ كل محاولات تطويق محور المقاومة فشلت، حيث هزمت المقاومة في لبنان العدو الإسرائيلي وصمدت سوريا بجيشها وشعبها في صد الحرب الكونية عنها ونجحت إيران في عقد اتفاق حول برنامجها النووي فازداد قلق الكيان الصهيوني من تنامي قوة المقاومة، مع اهتزاز دول في الخليج، ومنها السعودية، فيما أصبحت طهران في أربع دول عربية بحسب الخطاب الخليجي (صنعاء وبغداد ودمشق وبيروت) فرأت أن تتصدى لها.
لم تتمكن السعودية من تحقيق أية مكاسب في أي عاصمة من هذه العواصم، لاسيما لبنان الذي رأت أن «حزب الله» بات قوياً أكثر من حلفائها، وقد ربح جولات عدة عليهم في كل محاولات تقليص دوره، وإنهاء وجوده المقاوم، فاضطرت المملكة أن تقبل بالأمر الواقع محافظة على وجود حلفائها في رئاسة الحكومة والسلطة، وإن كان ذلك بمشاركة «حزب الله» الذي أوصل مرشحه العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، في وقت يبدو الحريري مكبلاً.
وإزاء الموقف الضعيف للملكة في لبنان كانت المحاولة السعودية الجديدة لتعويم قوى 14 آذار، فبدأت باستدعاء قياداتهم، فزارها مؤخراً رئيس «حزب القوات اللبنانية» سمير جعجع بالتزامن مع زيارة رئيس «حزب الكتائب» النائب سامي الجميل للتباحث معهما في إمكانية استعادة دور مفقود كان في أوجه ضد الوصاية السورية و«حزب الله»، دون أن ينجح، فهل في استطاعتهم لعب هذا الدور الآن؟
لاشك أن السعودية تعول على دور ما، قد يلعبه جعجع الذي عاد لرفع وتيرة انتقاداته لـ«حزب الله» بالتزامن مع تخيير وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج تامر السبهان، للبنانيين بأن يكونوا مع المملكة أو مع ما أسماه «حزب الشيطان».
وفي ظل الفرز القائم، قد تعمل السعودية لإعادة الانقسام إلى الساحة اللبنانية عشية الانتخابات المقررة في أيار (مايو) المقبل، في محاولة للضغط على «حزب الله» ومنع «التطبيع» مع الدولة السورية بقيادة الرئيس بشار الأسد، التي للبنان مصلحة اقتصادية معها.
قصارى الخطاب السعودي، أن لبنان سيكون ساحة صراع متجدد بين السعودية وإيران، فلمَن يكون النفوذ فيه؟ وهل تقع المواجهة فعلاً؟
Leave a Reply