وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
أثناء إعداد هذا التقرير، كانت الأخبار تتوالى عن المزيد من قطع الطرقات في مختلف المناطق اللبنانية… الدولار يرتفع بجنون حتى قارب السبعة آلاف ليرة في السوق الحرة حسبما تم تداوله عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فيما نفى آخرون وقالوا إنه لايزال عند ستة آلاف ليرة، فيما ارتفعت أسعار السلع إلى مستويات لم يسبق أن شهدها لبنان قط.
هكذا تبخرت محاذير كورونا، وعاد الحراك الشعبي إلى الشارع، بزخم وغضب مدفوعين بالانهيار الاقتصادي المحدق.
قطع الطرقات هذه المرة شمل بعض مناطق الضاحية الجنوبية التي لم تشهد احتجاجات من هذا النوع وإن صبّ معظمها في إطار المطالبة بإسقاط حاكم مصرف لبنان على خلفية اتهامه بالتلاعب بسعر الدولار.
غليان الشارع غذّاه توتر سياسي على أكثر من جبهة. فمن مقاطعة الوزير السابق سليمان فرنجية لجلسة مجلس الوزراء التي كانت مخصصة للتعيينات إلى السجال الذي اندلع بين رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع ورئيس الحكومة السابق سعد الحريري، وأخيراً الأنباء المتناقلة عن احتمال تقديم رئيس الحكومة الحالي حسان دياب استقالته إثر الضغوط الشديدة التي تعرّض لها سواء من بعض الحلفاء ممن دعموا وصوله إلى رئاسة الحكومة أو من الخصوم فيما الاحتجاجات على الوضع المالي والاقتصادي عادت لتعمّ لبنان من جنوبه إلى شماله.
اللافت كان انضمام مسيرة من مئات الشبان على الدراجات النارية قدمت من خندق الغميق وانضمت إلى المحتجين على جسر الرينغ، حيث أطلق الجميع هتافات موحدة ضد الطائفية في مشهد وطني جامع يناقض المشهد الطائفي البغيض الذي حصل السبت الفائت حين أقدم بعض المتظاهرين على إطلاق هتافات طائفية كادت أن تأخذ البلاد باتجاه منزلق خطير وتغرقه في أتون فتنة طائفية لم تكد تُمحى آثارها من ذاكرة اللبنانيين بعد.
فقد نجا لبنان خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي من «قطوع أمني» خطير إثر مواجهة وقعت بين متظاهرين من شارعين متقابلين تبادلا الهتافات الطائفية وكادت الأمور أن تنزلق لولا تعقل البعض وتنصل الجميع مما حدث. وقد أعلنت الأجهزة اللبنانية اعتقال عدد من الأشخاص اللبنانيين والعرب الذين اعترفوا بأنهم كانوا ينوون تنفيذ عمليات تخريبية وإرهابية أثناء الحراك الذي حصل يوم السبت السادس من حزيران بغية إشعال الفتنة.
على أثر تلك الأحداث صرح رئيس الجمهورية ميشال عون بما يلي: «لن نتوقف عند الحملات والشائعات التي تستهدف الحكم والحكومة والبعض استغل التظاهرات المطلبية للقيام بأعمال تخريبة مدانة». أما الرئيس دياب فقد قال: «تجاوزنا مشاريع فتنة طائفية مذهبية».
بالعودة إلى سجال الحريري وجعجع فإن المراقبين يردونه إلى الترسبات القديمة في علاقة الرجلين التي سادها التوتر منذ حادثة احتجاز الحريري في السعودية وصولا إلى عدم تسمية القوات للحريري لتأليف الحكومة في المشاورات النيابية الأخيرة وهي المسألة التي لم يستطع الحريري أن «يبلعها» فظهر الخلاف إلى العلن عبر سلسلة تغريدات وردود متبادلة لم تخلُ من القسوة والاستهزاء. وقد بدأها جعجع بقوله إنه لم يتخلَّ عن الحريري لكن الوقت لم يكن مناسباً لتوليه رئاسة الحكومة وقتذاك ليرد عليه الحريري متهكماً أنه لم يكن يعلم أن مصيره السياسي كان مرهوناً بقرار من جعجع وأنه لولاه لكان قد انتهى سياسياً.
سعر الدولار
خلال أيام ثلاثة فقط، ارتفع سعر صرف الدولار بنسبة 50 بالمئة، بالتزامن مع قرارات متتالية اتخذتها إدارة مصرف لبنان زاعمة أنها تهدف إلى تثبيت سعر الصرف، لكن كما في كل مرة حدث العكس.
لم ينسَ اللبنانيون بعد اعتقال عدد من كبار الصرافين الذين قيل إنهم اعترفوا بأنهم كانوا يتصرفون بأوامر مباشرة من حاكمية مصرف لبنان، لتُسحب الاعترافات لاحقاً وتجري ضبضبة الملف على الطريقة اللبنانية المعتادة.
البعض يرى أن حكومة دياب يجب ألا تسقط بل يجب تفعيل القرارات التي اتخذتها وتنفيذها وعدم الاكتفاء باللجوء إلى صندوق النقد الدولي و«التوجه شرقاً» أي نحو سوريا وروسيا والصين…
زعيم «تيار المردة» سليمان فرنجية كان واضحاً عبر «تويتر»: «ثورة الشعب محقة وعلى المتغاضين عنها أن يصغوا لصرخات الناس الغاضبة والجائعة».
رحيل الحكومة الحالية يبدو وكأنه بات مطلب الجميع، فمطب التعيينات الذي واجهه دياب ولامس من خلاله بعض الخطوط الحمر جعله في موقع المستهدف ممن اعتبروا التعيينات مساساً بحصصهم الطائفية وتجاوزاً لهم، كذلك اصطدم دياب بمن هبوا للدفاع عن رياض سلامة حين أراد عزله من منصبه، وهو الرجل النافذ الذي يملك مفاتيح كل سياسيّي لبنان، أما خصوم السياسة وعلى رأسهم سعد الحريري، فكل طموحهم رحيل حكومة دياب لاستعادة أمجاد غائبة كانت تشبه الملكية الحصرية له بما يمثله من ثقل في الساحة السنية.
ثمة ملامح إجماع على التخلص من حكومة دياب وهي التي نغّصت على البعض قدرته على الاستمرار في النهب فأقفلت بعض مسارب الهدر من جهة وبدت مصرة على متابعة السير في الخط نفسه من جهة أخرى. لكن لا مكان في لبنان للنزاهة ولا للإصلاح، منطق المحاصصة هو السائد ويبدو أن كل من يحاول الفكاك منه سيسقط أو سيتم الاتفاق على إسقاطه.
البعض يعتبر أن هذه الاحتجاجات ممنهجة وغير بريئة بل هي موجهة لاستغلال تردي الوضع المعيشي لإسقاط الحكومة الحالية المتهمة بموالاة «حزب الله» وحلفائه، ما يعني بالضرورة تجريم المحتجين واتهامهم بالتبعية لسياسة المحور الأميركي ومن لف لفه. فيما يعتبر آخرون أن الاحتجاجات العارمة التي تشهدها البلاد محقة ومنزهة عن أية خلفيات أو أهداف سياسية، فهي مطلبية بحتة بدليل توحد الجميع هذه المرة تحت شعار واحد هو الهم المعيشي على عكس ما كان يظهر في الاحتجاجات السابقة من تركيز على الشعارات السياسية.
فقد بات الهم المعيشي يتصدر كل المطالب. كيف لا والمواطن اللبناني أصبح أسير رغيف الخبز الذي أجبره على التخلي عن كل انتماء آخر غير الانتماء إلى غريزة البقاء؟
المكتب الإعلامي لرئاسة مجلس الوزراء أعلن أن رئيس الحكومة حسان دياب ألغى مواعيده يوم الجمعة، وذلك من أجل عقد جلسة طارئة لمجلس الوزراء مخصصة لمناقشة الأوضاع النقدية. وقد تحدثت تقارير صحافية عن توجه لإقالة حاكم مصرف لبنان (مع صدور هذا العدد) وقد رد «التيار الوطني الحر» برفض الإقالة، على لسان نائبه إبراهيم كنعان الذي قال: «ما حدا بقيل حدا. أنت بحاجة لكل الناس. هلق مش وقت مناسب».
وفيما ابتهج اللبنانيون بخبر إمكانية إعادة فتح المطار في الأول من تموز (يوليو) المقبل أوردت بعض الصحف اللبنانية معلومات عن أن العديد من البعثات الدبلوماسية الأوروبية والدولية قد طلبت من رعاياها الاستعداد لمغادرة لبنان خشية تدهور الأوضاع.
مرت على لبنان مظاهر احتجاج كثيرة في الفترة الماضية لكن هذه المرة تبدو الأمور مختلفة، سواء من حيث التوجهات والمطالب أو من خلال الانقسامات السياسية التي تكاد تكون شاملة، في ظل تفاقم الهم المعيشي وعدم القدرة على الاستمرار في بلد أنهكه الفساد والمحاصصة وبات مهدداً وجودياً.
الأزمة اللبنانية مرشحة للمزيد من التفاقم لاسيما مع دخول قانون «قيصر» حيز التنفيذ، وهو قانون عقوبات مشددة ضد سوريا، من المتوقع أن ترتد مفاعيله على لبنان وتضاعف من أزمته الخانقة.
فعلى ماذا سيستفيق اللبنانيون غداً؟
Leave a Reply