يعيش العراق انزلاقات أمنية مستمرة على وقع تخبط العملية السياسية الفتية التي قامت على أساس المحاصصة المذهبية والطائفية والقومية، لتنتج دولة هزيلة لم تبنَ على أسس المصلحة والانتماء الوطني وصفة المواطنة الحقيقية، بل على اقتسام الكعكة. سياسة أدت الى الاحتراب المستمر بين السياسيين. احتراب للحصول على الفوائد والمنافع السياسية. صراع مستميت للاستحواذ على أكبر عدد ممكن من وزارات ومؤسسات الدولة العراقية وفروعها العاملة في الداخل والخارج.
وفي ضوء هذه الافرازات، قسّم البلد الى مراكز نفوذ مذهبية وقومية عديدة تتناسب والتنوع السكاني الكبير، مع العلم انّ العراق يتكون من ست قوميات، هي: العرب، الكرد، التركمان، الكلدوآشورين، الايزيدين، والشبك. وستة أديان، هي: الاسلام، المسيحية، الايزيدية، المندائية، اليهودية، والكاكية، وهذه الاديان بدورها تنقسم الى مذاهب وطوائف عديدة، ومن خلال هذا الكم الكبير من المكونات التي يتكون منها الشعب العراقي، نستطيع أن نعرف ابعاد المشكلة اذا ما استخدم هذا التنوع لضرب أركان الوحدة وتمزيق النسيج الوطني.
ومن خلال تجربة عشر سنوات من الحكم الديمقراطي الهش، نجد أغلب المكونات المشتركة في الحكومة لم تعمل بروح المواطنة والفريق الواحد، ولم تعمل بروح القيم والمبادئ السماوية، بل عملت لحساب الذات الشخصية والقبلية والمذهبية وتطبيقاً لبعض الأجندات الأجنبية.
تنقسم أهداف المشاركين في العملية السياسية الى عدة أنواع:
– أولاً: الجميع هدفه الحصول على أكبر كمّ من الفوائد والمنافع المادية والاعتبارية.
– ثانياً: البعض يساعد على بقاء العراق ضعيفاً ومفككاً وذلك من خلال عرقلة الجهود الهادفة الى بناء جيش عقائدي وقوات أمنية قوية.
– ثالثاً: البعض يشترك في قتل العراقيين بدافع طائفي ومذهبي، وذلك من خلال ارتباط هذا البعض بقوى وولاءات خارجية لا يرضيها أن تجد العراق موحداً وقوياً لخطورته على توازن القوى في المنطقة.
وفي مشهد مكهرب بالانقسامات المذهبية والطائفية والقومية والنفعية والجرّمية، يكون من الصعب على الحكومة بناء دولة مستقرة وموحدة وذات قرار سياسي مستقل. وفي هذه اللحظات الحرجة من التاريخ يحتاج العراق الى الاصلاح والتصحيح وإعادة تنظيم البنى التحتية للنظام الديمقراطي الجديد، مع إعادة النظر في الأسس والقوانين التي بنيت عليها العملية السياسية، وكذلك العمل على اصلاح الخلّفية الثقافية والفكرية لكل مكوّن وطريقة تعامله وتفاعله مع المصلحة العراقية بشكل عام، حيث لابد للمشارك أن يحمل الحس والانتماء والولاء الوطني حتى يمكن له العمل والمحافظة على البلد موحداً وقوياً. وكذلك لا بد للسلطة التنفيذية أن تتعامل بقوة وحزم مع رؤوس الشد والتحريض الطائفي، وبصلابة مع المذهبية الهدامة، تلك المذهبية التي إستخدمت وتستخدم كسلاح فتاك في شق الوحدة والصف العراقي.
في المجتمعات الديمقراطية وخصوصا الغربية منها، يتعامل القانون بقوة وصرامة مع أي مساس بالتلاحم الاجتماعي والاستقرار الامني. وهناك بلدان ديمقراطية كثيرة تضم عشرات القوميات والاديان والمذاهب المختلفة، ولكن من الصعوبة أن تجد فيها انزلاقا طائفيا، والسبب هو ارتفاع درجة الوعي للمواطن العادي بالاضافة الى أنّ القانون يطبق على الجميع وبالتساوي، بحيث لا يشفع للمذنب دينه أو أمواله وعلاقاته الاجتماعية ولا حتى النياشين والرتب التي يحملها. على سبيل المثال، في الولايات المتحدة الأميركية، عندما يعمل مئات الناس ومن جنسيات وقوميات ومذاهب وألوان مختلفة في مصنع واحد، الجميع يحكمه قانون واحد، وأي كلمة تنتقص من قومية أو مذهب الآخر، كفيلة أن تحرمك من العمل وتقذف بك الى الشارع وتعرضك للمسائلة القانونية، بينما نجد في العراق الديمقراطي عشرات الوعاظ والخطباء ومتسلقي المنصات والمناصب الرسمية يحرضّون علنا على القتل الطائفي وتحت مرأى ومسمع القوى الامنية ومن خلال الفضائيات الاعلامية ولا يحدث لهم شيء، بل يكرّمون تثمينا لموقفهم على المساعدة في قتل العراقيين، وتوّفر لهم الحماية والتعويض المناسب. وفي بعض الاحيان، إذا حدث أن قتل بعض الخارجين على القانون برصاص القوى الامنية، يعوّض القتيل ويعطى حقوق الشهيد بعد أن تتدخل لجنة الأمر بالمعروف والمصالحة الوطنية، انها مفارقة عجيبة، اذا كان القتيل ارهابياً فلماذا يكافأ، وإذا كان بريئاً فكيف يقتل، وماهي الأسباب والنوايا التي دعت الى قتله، إذن لابد من وقفة للتغيير واعادة النظر والجلوس مع النفس لإعادة بناء الشخصية السياسية والشخصية الفردية العراقية التي أثرت عليها عقود القمع والظلم والاستبداد والحرمان، بالاضافة الى تأثيرات الإرث البدوي والقبلي، يحتاج الشعب العراقي الى وقفة لإصلاح البنى الفكرية والروحية للفرد، وإعادة تأهيله بما ينسجم وطبيعة العراق الجديد، انّ أهم الاشياء التي يجب عملها لرفع المستوى الثقافي وزيادة الوعي الوطني والديمقراطي لدى الناس هي:
– أولاً: تربية الناس على احترام القانون والتعامل معه بقدسية واكبار، القانون الذي يحفظ ويحمي الوطن والمواطن، مع التأكيد على تثقيف الحكومة في احترام قراراتها الصادرة، في جميع دول العالم تغربل وتدرس القوانين والاوامر والانذارات الحكومية قبل أن تصدر الى الشارع، تمر في عملية تمحيص وتدقيق من خلال لجان مختصة ومتخصصة ومهيئة لهذا الغرض، لأنّ التراجع عن تنفيذ هذه الأوامر أو الانذارات بعد صدورها وبدون سبب جدّي ومعقول يعتبر ثلمة وانحناءة للحكومة وللدولة. عمل يوحي بضعف ووهن المتصدين للعملية السياسية، وفي نفس الوقت يشجع المذنب على عدم الالتزام بالقانون والنظام. على سبيل المثال؛ هنالك كثير من الانذارات التي صدرت من قبل الحكومة العراقية ضد الخارجين على القانون، ولكنها لم تنفذ أو تم تعطيلها، وهذا دليل على التخبط السياسي والضبابية وعدم الوضوح الذي يلف العملية السياسية.
– ثانياً: محاولة التقريب بين أبناء الوطن الواحد، التقريب بين جميع طوائفه ومذاهبه وقومياته، تقارباً حيوياً وجدّياً ومثمراً في وقت تعيش فيه المنطقة والعالم استقطابات وتكتلات جديدة. يذكر التاريخ بأنّ العراقيين عاشوا خلال وبعد أحداث ثورة العشرين أروع صورة من صور التلاحم المذهبي والقومي، حيث كانت المساجد الشيعية والسنية تقيم الاحتفالات والمناسبات الدينية للطرف الآخر وبالتناوب، في وقت كانت البلاد تعيش تحت قبضة الاحتلال البريطاني، اذن فليس غريبا على شعب العراق التكاتف والوحدة في الظروف الحرجة إذا ما وجدت القيادة الحكيمة والواعية، فنحن نحتاج الى هذا التكاتف خصوصا في هذا الوقت، حيث يتعرض العراق وشعبه الى أخطر هجمة تكفيرية ظلامية هدفها تدمير العراق كدولة ووجود.
وكذلك نحن محتاجون الى فلسفة الاصلاح العقائدي والفكري ومحاولة السمو بالنفس العراقية الى أعلى مراتب الرقي والتنوير الروحي، وهذه مسؤولية علماء الأمة ومثقفيها ورواد الكلمة والخطابة والكتابة ورموز العلم والمعرفة، انها مسؤوليتهم للنهوض بالمستوى الثقافي للمجتمع، فوضع القوانين لوحده بالرغم من أهميته لن يوصل العراق الى النتيجة المطلوبة، لابد من حملة توّعوية وتربوية تهدف الى الانتقال بالمسؤول وبالفرد العراقي عموما الى المستوى اللائق به كصانع للحضارات وناقل للتمدن والمعرفة، وتلقين المذنب بأنّ سرقة المال العام هو حرام، وعدم تطبيق القانون هو جنحة مخلّة بالشرف، ومقاومة الجيش وقوى الأمن في ظل النظام الجديد هو عمل اجرامي، والتحريض الطائفي هو فعل من أفعال الشيطان، وبهذا الجهد والعمل نستطيع أن نقول بأننا القينا الحجة على المخالفين والمعاندين، فإن لم يرتدعوا ويرعوا، فلا بد من تطبيق القصاص العادل الذي أمرنا الله تعالى بتطبيقه للحفاظ على الحياة وديمومتها.
Leave a Reply