محمد العزير
يطرح الكاتب والناشط العربي الأميركي السيد وسام شرف الدين في كتابه الصادر حديثاً بعنوان «الدولة العربية المنتظرة… مشروع الكونفدرالية العربية» (راجع مقالتي السابقة في صدى الوطن»/ العدد 1870)، مشروعاً مفصلاً لقيام كونفدرالية عربية تحقق أماني الشعب العربي في الوحدة والتعاضد والتقدم وتمهّد الطريق أمام نظام فدرالي يحوّل العرب إلى قوة عظمى على الخريطة العالمية ويفتح آفاق العلم والإبداع والرقي والازدهار الاقتصادي.
يتضمن الكتاب أيضاً «الإعلان العالمي للقيم الإنسانية» كإطار دستوري يحكم العلاقات في الدولة العتيدة، ويدعو إلى مؤتمر عربي شامل يعقد في العاصمة الفرنسية باريس في الثامن عشر من حزيران (يونيو) 2023 لإطلاق المشروع.
من يعرف السيد شرف الدين لا يخامره الشك في حصافته وجديته، وإلّا نظر إلى الكتاب الواقع في 112 صفحة كورقة بحثية مقدمة إلى مؤتمر أو ملتقى أكاديمي أو نخبوي افتراضي يستدرج الأفكار والرؤى حول مستقبل مفتوح للواقع العربي الذي لا يسر صديقاً ولا يشغل عدواً في أيامنا هذه. لكن السيد شرف الدين جادٌ في طرحه إلى درجة تحديد موعد لانعقاد المؤتمر الأول لمباشرة المشروع في أقل من سنتين، ويسعى قدر استطاعته خصوصاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمؤسسات الثقافية والأهلية المهجرية لتسويق مشروعه، ابتداءً بتحديد مفهوم إنساني حضاري للهوية العربية بعيد عن العقائدية الحزبية أو الشوفينية العنصرية وصولاً إلى إعادة تأكيد الحرص الشعبي العربي، لاسيما في أوساط الشباب، على اجتراح أي كيان جامع يكون إطاراً لهذه الهوية التي طال انتظارها أكثر من قرن وعقد من الزمن.
يطمح شرف الدين إلى إطار يرث ما بقي من جهاد ونضال الملك فيصل بن الحسين الذي قاد تحرر العرب من العثمانيين ليقع فريسة التآمر الفرنسي الإنكليزي الذي تقاسم الوطن العربي في «سايكس–بيكو»، وما سبقه من حراك نهضوي قبل الحرب العالمية الأولى تجلى بانطلاق جمعيات وحركات نخبوية وثقافية واجتماعية عربية، خصوصاً في مصر ودول المشرق توّجت مساعيها في المؤتمر العربي الأول الذي انعقد في باريس عام 1913 وحمل عناوين إصلاحية واستقلالية وإنسانية لا تزال صالحة إلى يومنا هذا. ولا ينسى في هذا السياق صرخات الربيع العربي (2011) التي لا تزال أصداؤها تتردد قي الآذان والأفئدة، والقاسم المشترك بين كل ذلك نهايات مروّعة أو بائسة كما نرى في واقعنا اليوم.
لا جدال في صوابية العرض التاريخي الذي أورده شرف الدين وهو الخريج المشاكس من المدرسة الدينية الغارقة في تاريخيتها، ولا يختلف أي عربي سويّ حريص على أهله ومستقبل وطنه وأولاده وضنين بثقافته وتراثه مع الكاتب في ضرورة الوصول إلى صيغة تلغي المفاعيل القاتلة لـ«سايكس–بيكو» التي حولت الخريطة العربية إلى رقع كيانية ملغومة بالطائفية والمذهبية والعقد الأقلوية والجهوية والتي ولدت نخب مرحلتي الانتداب والاستقلال ممن لازالوا يتحكمون بالمصير العربي، حتى من تحت التراب، معطوفين على العسكر الريفي الانتماء والوعي، الذي يبقى أفضل من يحفظ تلك الخرائط ويستمر فيها على حساب شعوب تقتل إمكاناتها كل يوم وتنتهك كرامة أبنائها بالجملة، تحت الاحتلال أو الأحكام العرفية والحروب الأهلية، أو بالمفرق موتاً في قوارب الذل والمهانة، أو تيهاً بين حدود دول أوروبا وأميركا الشمالية بحثاً عن حياة أقل سوءاً وأكثر أمناً، فيما النخب الدينية عالقة في فقه النكاح والتكفير، والنخب الثقافية تحاول البحث عن نفسها في عالم ما بعد الحداثة وهي تنظر في مرآة بدائية مسمّرة على جدار القرون الوسطى.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه فور الانتهاء من القراءة الثانية للكتاب، الذي لا يخلو من النداء العاطفي المباشر، هو: لمن يتوجه هذا المشروع؟ إلى أية بيئة؟ وعلى من يراهن؟ الحراك العربي الذي سبق الحرب العالمية الأولى جاء في سياق عالمي لم تشذ عنه الدولة العثمانية نفسها والتي ألهمت العديد من مثقفي ونخب تلك المرحلة من خلال نخبها نفسها التي انتفضت على ذاتها الإمبراطورية من أجل هويتها الوطنية فكانت ترى في الذين تحتلهم (من العرب) عبئاً أكبر مما يرى العرب في احتلالها لهم، حتى في التسمية قلّدت أشهر جمعيات العرب اسم أشهر الجمعيات التحررية العثمانية، «تركيا الفتاة». وكان ذلك على وقع صعود الوطنية الأوروبية التي أدت إلى حرب عالمية أولى سرّعت في تخمير الوطنية إلى قومية شوفينية قاتلة في حرب عالمية ثانية أجبرت نتائجها ما تبقى من أوروبا على لملمة خيبتها لتبني رويداً رويداً الاتحاد الأوروبي برعاية وتمويل أميركيين لا يزالان فعّالين حتى اليوم.
ثورة الشريف حسين ونضال ولده الملك فيصل كانا في سياق عربي متناسق. كانت القيادة قريبة ومتناسبة مع التكوين الاجتماعي والنفسي والعاطفي للناس. كانت اللغة السياسية مفهومة، ولم تكن النخب التي تهافتت على أعتاب المندوبين السامّيْن قد تعلمت بعد، اللعبة الكيانية التي أصبحت اليوم محفورة في الوجدان العربي تماماً مثل خرائط «سايكس–بيكو»… لا تمحوها عاطفة ولا تزيحها مصلحة. وتجربة الوحدة المصرية السورية ومآلاتها أفضل دليل على ذلك، إذا تركنا جانباً التجارب الوحدوية الهزلية للعقيد معمر القذافي أو التكتلات الإقليمية الكيدية أو القسرية التي انتشرت ثم اندثرت قبيل انتهاء الحرب الباردة. حتى أن أنجح تجربة كيانية ذات معنى وهي مجلس التعاون الخليجي ما لبثت أن تصدعت قبل أن تكاد تقتتل تحت ضغط خليط من المؤثرات العقيدية والمذهبية والشخصانية المستندة إلى الخارج نفسه!
يقوم مشروع الكاتب على مبادرة الناس إلى تشكيل لجان أحياء وقرى وبلدات وجمعيات، ليس في التاريخ العربي الحديث مثيل لها إلا في جماهيرية العقيد معمر القذافي وكلنا يعرف كيف كانت تلك اللجان تنشأ وتدار وتقرر. المشكلة ليست فقط في غياب المثال وإنما في معطيات لا تقل أهمية عن المعطيات الصحيحة التي أوردها الكاتب في معرض تشجيعه على الفكرة من حيث عدد السكان والموارد والرقعة الجغرافية، ومن تلك المعطيات أن ثلث الشعب العربي أمّي لا يجيد القراءة والكتابة، وأن ثلاث دول تعيش حروباً أهلية مفتوحة (سوريا، اليمن، ليبيا)، وأن دولا أخرى تخشى المصير نفسه في آية لحظة (العراق، لبنان، الجزائر…)، وأن أكثر من نصف الدول العربية تمنع التجمعات بدون إذن مسبق من المخابرات، وأن الوافدين العرب إلى الدول الشقيقة المستقرة والغنية ليسوا في أمان على مستقبلهم هناك لأسباب تفتأ تزداد ولا تقل.
حتى هنا في المغتربات هل يجرؤ أحدنا الذي يتمتع بكل حقوق المواطنة الممنوحة لبني مجتمعه الكبير أن يصرّح عما في نفسه ضمن مجتمعه الصغير؟ هل تابع السيد قضية المغترب الذي لم يعجبه كلام ابن بلدته التي هاجر منها فقصد قائل الكلام في البلدة نفسها محاولاً قتله في عقر داره؟ وهل يتابع العركات والصولات والجولات التي تحصل ليلاً نهاراً بين مكونات الجالية العزيزة في منطقة ديترويت على فوالق التصدع الدينية والمذهبية والإقليمية؟
للأسف، إن مقابل نبل المشروع الذي يطرحه شرف الدين غاية ومضموناً، واقع بائس بدائي منقسم ومفتت غير قادر على النظر إلا إلى الخلف، أما ما خصنا نحن هنا كعرب أميركيين فإننا نلمس تقدماً لأبناء وبنات الجيلين الثاني والثالث الذين لم يسمعوا بياسر العظمة ولا بميسلون وهم في تضامنهم النبيل مع قضية فلسطين ينطلقون من كون فلسطين قضية حق إنساني لا مسألة حق قومي.
هنا نأتي إلى النقطة الأكثر حضوراً في المشروع كله؛ كيف ستتخلى إسرائيل (آخر إفرازات الاستعمار الأوروبي على حد تعبير الكاتب) عن كيانها وتقبل بدولة واحدة وعودة اللاجئين إلى أرضهم؟ بل كيف ستقبل بتطبيق القرار 181 أو 242 أو حتى اتفاقيات أوسلو لكي تصبح فلسطين جزءاً من الكونفدرالية العربية؟
للأسف، نحن في زمن، علينا أن نخشى فيه من تقسيم المقسّم وتفتيت المفتت، وكم أرجو أن أكون مخطئاً.
Leave a Reply