المفروض أن ما جرى في مصر في أعقاب إنتصار ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011، أن يكون تحولا نحو الديمقراطية. فقد قامت ثورة من أجل الكرامة الإنسانية، وضدّ الفساد والديكتاتورية ومن أجل رحيل النظام الحاكم، بما في ذلك الرئيس نفسه وكل وزرائه، وضدّ الفقر والبطالة وغلاء الأسعار، والتنازل للأميركيين والإسرائيليين، والحصار الذي ضربه النظام البائد ضدّ الفلسطينيين. ولكن الذي حدث هو العكس تماماً. صحيح أنه جرت إنتخابات، وصحيح أنه صيغ دستور. ولكن الانتخابات لوحدها لا تُعبر عن وجود ديمقراطية، وإلا لاعتبرنا أن الانتخابات التي كانت تجري أيام النظام المطرود، هي ديمقراطية، وأن حسني مبارك كان منتخبا رسميا بفوز ساحق (88 بالمئة وما فوق في كل انتخابات)، فإذا كان هذا صحيحا فكيف نفسر خروج الشعب المصري يوم 25 يناير ويعمل على إسقاط النظام؟ والدستور الذي يُعبر في أغلبية بنوده عن وجهة نظر معينة، وليس الشعب بأكمله، أمر مرفوض أيضاً.
ولكن إذا ما قيمنا الأحداث خصوصاً بعد انتخاب الرئيس محمد مرسي رئيسا للجمهورية، لوجدنا أنها، ليست فقط تدفع مصر إلى الوراء، بل إنها اكثر ديكتاتورية من العهد البائد. فلم تمض عدة أشهر على تولي مرسي كرسي الرئاسة في مصر، حتى نصّب نفسه دكتاتوراً حاكماً بأمره، قراراته نهائية ولا يمكن مناقشتها أو نقضها، ومن دون العودة للشعب الذي أوصله إلى كرسي الرئاسة. وبهذا يكون قد نكث بوعده للشعب المصري، بعد أن تعهد أنه قبل التصويت على الدستور، سيقيم حواراً مجتمعياً حوله. ولم يشفع حتى رفض قضاة مصر، باستثناء المقربين للأخوان المسلمين، من تغيير موقفه.
وهكذا وجد الشعب في مصر نفسه لا يزال في المربع الأول، رغم تغيير النظام، ورغم ظنه بأنه تجاوز مرحلة العبث بحقوقه، إنه يقف أمام جماعة تمكنت من الهيمنة على الحكم، ضاربة عرض الحائط بكل مقومات الديمقراطية والمطالب الشعبية. بداية قام مرسي بتنفيذ مطالب شريحة معينة من الشعب المصري وهي شريحة التيار السياسي الإسلامي في مقدمته الإخوان المسلمين، والذين وجدوا أن الفرصة التي كانوا ينتظرونها قد حانت، فانقضوا على الحكم، ودعموا رجلهم، محمد مرسي، لينفذ أهدافهم حتى لو أدى ذلك الى تفتيت وحدة الشعب المصري.
فمن المفروض أن يكون رئيس الدولة ممثلا لكل أبناء شعبه، ويحاول أن ينفذ رغباتهم وفي مقدمتها حرية الكلمة والتعبير وضمان لقمة العيش. ولكن الذي حدث كان غير ذلك. فصلاحيات الرئيس اليوم تخوله من منع أي انتقاد إعلامي ضدّه وضدّ قراراته مهما كانت إستبدادية، وأن تدفع الصحيفة أو الكاتب ثمنا إذا تعدى ذلك. وليس المتعارف عن حكومة ديمقراطية في العالم أن تتجاهل مطالب معارضيها وتمر عليها مر الكرام دون أخذها في الحسبان ومناقشتها. فمثلا في الولايات المتحدة يدور اليوم جدل واسع حول زيادة أو تقليص الضرائب، حيث يقوم أعضاء الكونغرس من الجانبين بمناقشة الموضوع، ويدور حوار بين معارضي موقف الرئيس باراك أوباما من هذا الموضوع، وتجري الاجتماعات بين الطرفين في البيت الأبيض.
ولكن قرار رئيس جمهورية مصر العربية مرسي، بزيادة الضرائب لا تناقش ، رغم أنها تصيب الإنسان المصري بالصميم، فقد تقرر رفع الضرائب على المواد الأساسية، دون مناقشة. وهي تتعارض مع مطالب الثورة التي إدعى الرئيس مرسي أنه يريد تطبيقها. وهذه الخطوة ستجبر مصر على الإقتراض وبالتالي زيادة ديونها ، وحسب آخر التقارير عن الإقتصاد المصري يشير إلى أرقام مخيفة. فالمصاريف تصل إلى 600 مليون دولار في الشهر، كلها آتية من الإحتياطي المالي لمصر والذي يصل اليوم إلى 15 مليار دولار فقط. إن مصر دولة غنية إذا ما عرف قادتها كيف يتصرفون . فشساعة أراضيها الزراعية وماء نيلها تستطيعان تزويدها، على سبيل المثال، بالقمح المطلوب بدلا من شرائه من أميركا وبعض الدول الأخرى بالعملة الصعبة، ويمكن تطوير زراعة القطن وتصنيعه في مصر وتصديره، إضافة إلى مدخول قناة السويس الدولية، والإستقرار يستطيع أن يعيد السياحة إلى مصر، ويعيد الإستثمارات الأجنبية والعربية إليها. ولكن مشكلة الإخوان أن أولوياتهم مختلفة، يتقدمها تطبيق الشرعية بمفهومهم هم وما يخدم مصلحتهم هم كحزب سياسي.
كما أن عدوهم الرئيسي والأول هو التيار القومي فتخوفهم من إنتعاش القومية العربية، تدفعهم إلى التشبث بحبال الإستعمار. فمثلا قرر محمد مرسي إصدار مرسومه الجمهوري بصلاحياته الدكتاتورية بعد اللقاء المغلق الذي تم بينه وبين وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في القاهرة. وهذا التخوف هو الذي دفعه، على ما يبدو، إلى القيام بإرسال رسالته الشهيرة إلى شمعون بيريز متوجة بـ«عزيزي وصديقي العظيم» ومذيلة بـ«صديقكم الوفي» (يوم 19/6/2012)، والتي سربها بيريز لوسائل الإعلام الإسرائيلية لغرض في نفس يعقوب، ونشرت صورتها في تلك الصحف.
وعندما يريد نظام معين خدمة أسياده يذهب إلى أبعاد كثيرة، فهناك أحداث وقعت قدم فيها الرئيس مرسي تنازلات لإسرائيل، نزولا لأوامر أميركاً، خصوصا بالنسبة لأحداث سيناء، ولا مجال للخوض فيها الآن.
وكانت ملفتة للنظر قصة نشرتها صحيفة «واشنطن بوست» ( 25/12/2012) على صفحتها الأولى عنوانها: «اليمن تحاول أن تغطي على حقيقة ضربة جوية». والعنوان الفرعي: «طائرة أميركية قتلت مدنيين، ولكن الحكومة المحلية تحملت المسؤولية». والقصة تقول أن طائرة أميركية قامت بضرب سيارة مدنية تقلّ 14 شخصاً فقتل 11 منهم من بينهم إمرأة وابنتها البالغة من العمر سبع سنوات، وصبي في الثانية عشرة من عمره. وتضيف الصحيفة أن الحكومة اليمنية صرحت أن هذه السيارة كانت تقل أعضاءً من تنظيم «القاعدة» وأن الطائرة التي قصفتها كانت من صنع روسي. إلا أن الصحيفة تقول أن المعلومات التي حصلت عليها تشير الى أن الطائرة كانت أميركية فهل بالإمكان أن نفهم لماذا قامت الحكومة بهذا العمل؟؟
فإذا كانت خدمة الأسياد تصل إلى هذا الحد، فكيف يمكن أن يثق الشعب بمن يريد أن يبني نظاما كاملا، يقوم بخدمة هؤلاء الأسياد؟ إن القوة الأساسية لكل رئيس تكمن في دعم شعبه له، وعندما يكون سائرا في الطريق الصحيح، يستطيع أن يتوسط جماهير شعبه، وأن يركب السيارة المكشوفة وهو واقف بقامته يحيي الجماهير، لا أن يدخل في قصر ويأمر ببناء حائط حوله خوفا من الغضب الجماهيري.
Leave a Reply