قلما حظي مؤتمر حزبي اميركي بالاهتمام والمتابعة اللذين حظي بهما المؤتمر الوطني للحزب الديموقراطي في مدينة دنفر بولاية كولورادو على مدى ثلاثة ايام.
كانوا كلهم هناك وفي مقدمهم «ايقونتهم» الرئيس الاسبق بيل كلينتون وزوجته المرشحة «العنيدة» هيلاري التي اقدمت في اليوم الاخير على مسرحة عملية الاقتراع بظهورها المفاجئ مع مندوبي ولاية نيويورك لتطلب بحركة اخراج مفاجئة من سكرتيرة الحزب وقف العملية معلنة تنازلها للمرشح باراك اوباما ومستدرة دموع الديموقراطيين الذين اذهلتهم هذه «الشهامة» الصادرة عن امرأة ظلت تقارع حتى النفس الاخير من اجل الحصول على ترشيح حزبها للرئاسة الاميركية.
اعلان هيلاري الذي يشبه السيناريو المسرحي وقع على ارض ديموقراطية ضربها الجفاف وكان له فعل الرذاذ الذي امتصته قواعد الحزب التي ملأت قاعة المؤتمر واروقته وهي كانت قد مهدت له بخطاب مميز في اليوم السابق، اعلنت فيه عن دعمها بـ«فخر» لغريمها المرشح الشاب الافريقي الاميركي باراك اوباما المحمول على «حلم» مضرج بدماء القهر والمعاناة في شوارع تينيسي وآلاباما وغيرها من ولايات الجنوب الاميركي التي اشعلها الدكتور مارتن لوثر كينغ على رأس حركة الحقوق المدنية في ستينات القرن الماضي، وسقط في ذروتها صريع حلمه، ليس بوصول افريقي اميركي الى الرئاسة، بل بالحصول على ابسط الحقوق المدنية التي حرم منها الافارقة منذ ان جلبهم المستعمر الاوروبي القديم للنهوض بالقارة الجديدة على زنودهم واكتافهم، وتحت وطأة عبودية حرمتهم من انسانيتهم على مدى اجيال.
مؤتمر دنفر يحض بقوة على انطباع مفاده: اميركا لم تعد حيث كانت! هي الآن التي يحتشد «نصفها» وراء المرشح الاسود المفوه وصاحب النبرة الخطابية التي اثارت جيلاً بأكمله من الشباب الاميركي نجح اوباما في ازاحة غشاوة العنصرية المقيتة عن ناظريه.
باراك اوباما ليس مرشح الافارقة الاميركيين، انه مرشح الحزب الديموقراطي الممثل لتطلعات كل الاميركيين نحو التغيير تحت لافتة باتت «عقيدة سياسية» تقول: «نعم بمقدورنا».
دوت اصداء هذه المقولة على ألسنة جهابذة الحزب الديمقراطي الذين تباروا في مدح مناقب المرشح اوباما واهليته واستعداده للقيادة «منذ اليوم الاول».
كان هنالك مرشحون للرئاسة مثل جون كيري الذين لم تسعفهم بلاغتهم الخطابية ايام حملاتهم الانتخابية السابقة مثلما اسعفتهم وهم يترنمون بمرشحهم واملهم باستعادة البيت الابيض من براثن الجمهوريين بعد ثماني سنوات عجاف من الاستئثار الجمهوري وسياساته التي اعادت اميركا مكسورة الجناحين من الحقبة الذهبية لـ بيل كلينتون، مثقلة بالاعباء والديون ومثخنة بالحروب التي يعيب الديموقراطيون على ادارة بوش خوضها بلا خطط ولا آفاق او استراتيجيات خروج تنجي البلاد من التورط في مستنقعات التدخل العسكري في مناطق نائية من العالم وترهن جل الثروات لتحقيق غايات حزبية ومصلحية وعقائدية لشريحة من تلك الادارة تهاوى افرادها الواحد تلو الآخر امام المأزق الذي اوقعوا اميركا فيه عندما بادروا الى شن حروب في غير مكانها وزمانها وظروف النجاح فيها، وتقف حرب العراق شاهدة على «الغباء الجمهوري» الذي ضيع البوصلة وهجر ارض المعركة الحقيقية مع الارهاب في افغانستان وباكستان، ونقلها الى العراق بقرار متهور سيدخل التاريخ الاميركي بوصفه القرار الاسوأ منذ حرب فيتنام ونتائجها الكارثية.
لم يفوت كبار الديموقراطيين مثلباً جمهورياً إلا واظهروه وكانت نيرانهم السياسية تشعل الحرائق الاعلامية في الفضاء الجمهوري المفتوح على كل الوان النقد والتقريع. بدا المؤتمر ساحة مثالية ولحظة تاريخية للاجهاز على ما تبقى من ارث «المحافظين الجدد» بالقرينة والحجة اللتين تصعب مقارعتهما في بلاد بات هم المواطن فيها تحصيل لقمة عيشه، وتأمين الدواء والاستشفاء فيما مليارات الدولارات تنفق على الحروب الخارجية التي لا طائل منها ولا تفعل إلا ان تمعن في تشويه سمعة القوة الاعظم في العالم في اذهان باقي شعوب الارض.
السناتور جوزيف بايدن الذي اختاره أوباما نائباً له كان اقرب الى ممثل تراجيدي وهو يروي على مسامع ملايين الاميركيين انطباعاته في الرحلة اليومية بالقطار من واشنطن الى ديلاوير : «ارى تلك البيوت واكاد اسمع ما يدور وراء الابواب وتحت الاضواء الخافتة لتلك العائلات الاميركية التي تؤرقها الاسئلة عن الغد المجهول. كيف نؤمن الطعام والتعليم والتدفئة..» اختلط السياسي بالوجداني وانهالت سيول من الدموع التي اشبعتها حركات «الزوم إن» لكاميرات قرر اصحابها المشاركة المؤثرة في الدراما الانتخابية الرئاسية لكي لا تفوت فرصة تاريخية لدور الاعلام الاميركي في احداث تغيير يتطلع اليه الملايين في شخص باراك اوباما ونائبه المختار جوزيف بايدن الذي اظهر عن خامة رئاسية لا يرقى اليها الشك في خطاب القبول الذي الهب مشاعر الحضور داخل قاعات المؤتمر وملايين آخرين تسمروا امام الشاشات لمتابعة هذا الحدث الاستثنائي في التاريخ الاميركي.
لم يبق ديموقراطي بارز الا وادلى بشهادته المفعمة بالأمل بحق المرشح المأمول بوصوله الى البيت الابيض في نوفمبر القادم.
فالرئيس بيل كلينتون وزوجته المرشحة الديموقراطية اللذين لم يعدِما وسيلة للتنكيل بحظوظ اوباما بديا كراهبين على مذبح الوعد الذي يمثله اوباما لحزبه بعد سلسلة من النكسات التي افقدته حتى القدرة على الاعتراض على سياسات جمهورية تدرعت بـ«الشعور الوطني» في اخذ اميركا الى خيارات غالية الاثمان سوف يستغرق الخروج من اثارها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية سنوات طويلة.
جاهر الرئيس كلينتون بقناعته بقدرة الثنائي اوباما – بايدن على قيادة سفينة البلاد من العباب المتلاطم الامواج الى بر الامان الاقتصادي والاجتماعي والنفسي لملايين الاميركيين التواقين للعودة الى «الحلم الاميركي» وكان طيف جون اف. كيندي حاضراً باستمرار في عقد المقارنة بين طموح الكاثوليكي الاول الذي اعتلى سدة الرئاسة قبل نحو خمسين عاماً وطموح الافريقي الاول الذي تلوح امامه فرصة تاريخية نادرة كفيلة اذا تحققت بتغيير «وجه اميركا».
استنفر المتحدثون كل انواع الاسلحة لسد اية ثغرة محتملة قد يلجأ اليها الجمهوريون لوقف مسيرة التغيير التي تزحف وراء الاميركي الاسود الواعد باراك اوباما الى حصن القرار الاميركي المنيع فوقف جون كيري منادياً على «الخال الابيض» لاوباما ليبلغه تحت اضواء الكاميرات التي اضاءت وجه الرجل العجوز الجالس الى جانب ميشيل اوباما «بأن ابن اخته يمثل الوعد والامل لكل الاميركيين».
المؤتمر الديموقراطي يفترض ان يتوج بخطاب تاريخي للمرشح اوباما في ملعب كرة القدم المعلق بين ارض كولورادو وسمائها امام حشد يقدر بسبعين الفاً.
فهل يبقى «حلم اوباما» معلقاً بين ارض الواقع الاميركي وفضائه ام ان شعار «التغيير» الذي نجح في جذب الملايين اليه سينال حظه من الفوز في الرابع من نوفمبر القادم؟
ثمة استنتاج لا يخلو من الغموض على ضوء تجربة الانتخابات التمهيدية في الحزب الديموقراطي، وهو ان اميركا لم تستطع اقناع ذاتها بامرأة لقيادتها، رغم الشخصية «الفولاذية» التي تتمتع بها زوجة الرئيس الاسبق.
اما المرشح «الملون» فيبدو انه «مسألة فيها نظر» ومن لا يصدق عليه فقط ان يستمع الى الخطب الحماسية التي تبارت في القائها الاوزان الديموقراطية الثقيلة وان يشااهد دموع البيض والسود وسائر الملونين التي انهمرت من اعالي كولورادو لتغسل خطايا الديموقراطيين وانقساماتهم وتوحدهم خلف المرشح الواعد باراك اوباما.
Leave a Reply