علي حرب
قرن كامل مر على مذبحة العثمانيين التي فتكت بمليون ونصف أرمني وأجبرت مئات الآلاف على النزوح من أرض آبائهم وأجدادهم فـي المنطقة التي تُعرف اليوم بتركيا. ولكن بعد ١٠٠ عام على هذه المأساة لا يزال الأرمن يتمسكون بثقافتهم وهويتهم التي نجت من خلال الألم والأمل الذي تناقلته الأجيال أباً عن جد.
الجمعة ٢٤ نيسان (أبريل)، كان يوم الذكرى المئوية للإبادة الجماعية بحق الشعب الأرمني حيث قام الملايين من أبناء الأرمن الذين نجوا من حملة الإبادة العثمانية بإحياء هذه الذكرى فـي جميع أنحاء العالم.
لكن فـي الولايات المتحدة، الذكرى بالنسبة للأرمن الأميركيين هي تذكير فج بأن حكومة الولايات المتحدة لا تعترف أن مأساتهم كانت إبادة جماعية.
وفـي هذا المضمار قال الموسيقار المحلي آرا توبوزيان «ان الإبادة الجماعية قد أثرت على كل الأرمن بطريقة او بأخرى، إما عن طريق فقدان أحبائهم أو طردهم من وطنهم ولا يوجد هناك أرمني واحد على قيد الحياة لم يشعر بعمق هذه المأساة».
وأضاف توبوزيان، الذي يعزف على آلة القانون الموسيقية، ان المأساة دائماً موجودة فـي موسيقاه «وأنا لم أكتب أية معزوفة عن الإبادة الجماعية، ولكن اثارها تنعكس على موسيقاي بوعي وبدون وعي، والضحايا هم دائماً فـي الجزء الخلفـي من ذهني. المهاجرون الذين نجوا هم الذين سمحوا للموسيقى أنْ تبقى على قيد الحياة».
وهذا العام أنتج الموسيقار توبوزيان الفـيلم الوثائقي «حراس الموسيقى»، وهو يحكي تاريخ الموسيقى الأرمنية
فـي ديترويت. وعقب على ذلك بالقول ان المهاجرين
الأوائل أصروا على الحفاظ على ثقافتهم بعد الإبادة الجماعية.
وأردف «انهم يريدون إعادة خلق ما شبّوا عليه وهذا يسمح لهم بالعزف الموسيقي مرة أخرى وتكريس ثقافتهم والتحدث بلغتهم الأم. لقد كانوا مقاتلين فـي السابق وهم لن يستسلموا الآن».
وكانت الإبادة الجماعية قد دفعت مئات الآلاف من الأرمن على النزوح واللجوء إلى المنفى والتشرد فـي جميع أنحاء العالم. ولكن رغم تعاقب الأجيال، وفقاً لتوبوزيان، فإن الأرمن قد يأتون من كل أصقاع الدنيا ليلتقوا معاً لينشئوا دولة أرمينيا الخاصة بهم.
واستطرد «نحن على تواصل مع بعضنا. أنا أعزف الموسيقى الأرمنية القروية التي لا تزال تُسمَعْ فـي جميع أنحاء العالم. ونحن باقون على اتصال من خلال ثقافتنا التي تجمعنا معاً. نحن أقوى بكثير من ان تقضي علينا الإبادة الجماعية».
من ناحيته وصف رجل الأعمال روجر باسماجيان الإبادة الجماعية بانها «جرح مفتوح ينزف فـي ضمير كل أرمني». وقال باسماجيان، الذي ولد فـي لبنان، ان اللاجئين الأرمن الأوائل رُحِّبَ بهم فـي دور الأيتام اللبنانية حتى نموا وقويت شوكتهم كجالية أرمنية وشعروا أن لبنان وطنهم.
وأضاف «أن الأرمن فـي لبنان كانوا قادرين على التمسك بثقافتهم ولغتهم أكثر من مواطنيهم فـي الولايات المتحدة بسبب عملية الذوبان فـي المجتمع فـي هذه البلاد».
وقدر روجر عدد الأرمن فـي منطقة جنوب شرق ميشيغن بـ٢٥ الف نسمة ويوجد أربع كنائس ارمنية فـي المنطقة.
وقالت ناشطة فـي الجالية الأرمنية ساكيه باسماجيان، والدة روجر، ان الأرمن قاموا بالحفاظ على ثقافتهم عبر الأجيال فـي الشتات وكذلك حفظوا ذكرى الإبادة الجماعية لنقلها لأولادهم.
«والداي، وأنا، لدينا مهمة نقل التاريخ والثقافة الأرمنية الى اطفالنا»، قالت ساكيه مضيفةً «نحن دائماً نحث اطفالنا أن لا ينسوا أبداً الإبادة الجماعية الأرمنية وان يبذلوا قصارى جهدهم للتأكد ان الأجيال القادمة والآخرين يعرفون ذلك. لن ننسى أبداً الثقافة الأرمنية، واللغة، وكذلك المطبخ الأرمني».
وأردفت ساكيه، التي هي عضو فـي جمعية «الإغاثة الأرمنية» ونادي «المرأة الأرمنية فـي ديترويت» ان الأقارب على جانبي عائلتها ابيدوا أثناء المذابح «وقتل جد جدي أمام أسرته».
واستذكرت كيف ان جدها كان يروي قصصاً مرعبة عن الإبادة الجماعية عندما كان فـي مطلع الشباب. «وانتقلت الصدمة من هذه الإبادة الجماعية إلى الأجيال وتعممت فـي ثقافات الوعي الجماعي»، كما أوضحت. وقال المصمم الأرمني الاميركي ناريك كاشاتريان الذي يعيش فـي لوس انجلوس، انه نشأ على تعلم ان المجازر ارتكبها العثمانيون ضد الأرمن فـي الحرب العالمية الأولى.
وولد كاشاتريان، البالغ ٢٦ عاماً، فـي أرمينيا التي كانت تحت الحكم الشيوعي حتى عام ١٩٩١. وبعد الحرب العالمية الأولى، حجر الاتحاد السوفـياتي على ذكرى مأساة أرمينيا خوفاً من صعود وتنامي الشعور القومي.
وجمهورية أرمينيا تحوي حوالي ٣ ملايين نسمة وتقع شرق تركيا، ولكن عندما يذكر الأرمن أرمينيا التاريخية، فأنهم يشيرون إلى امتداد أكبر بكثير وتشمل الأراضي التي تغطي المناطق التي طردوا منها فـي ما يعرف اليوم بتركيا.
وفـي هذا الصدد ذكر كاشاتريان «نحن نعرف أراضينا التي تم قضمها ونزعها منا، ونتذكر جيداً كيف قتل ١,٥ مليون أرمني على يد العثمانيين والأكراد. تعلمت كيف قتل إخوان أجدادي الكبار خلال الإبادة الجماعية، لكن جدي نجا بنفسه. تعلمت كيف ان عائلتنا أتت من كارس وماش وهما من الأمكنة التي هي الآن جزء من أراضي تركيا الحديثة».
العدالة والاعتراف
الأميركي العادي يعرف المشاهير من أصل أرمني مثل كيم كارداشيان أكثر من معرفته بالحقيقة التاريخية للإبادة الجماعية للأرمن. الموسيقار توبوزيان ألقى اللوم فـي هذا السبب على غياب الثقافة حول هذا الموضوع ولعدم وجود الوعي حول التاريخ. وقال عندما كان يتلقى العلم فـي المدرسة لم يكن حتى المعلمين يعرفون ما هي أرمينيا.
ودعا حكومة الولايات المتحدة للاعتراف باضطهاد الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى وبتعرضهم للإبادة الجماعية. وأكد «يمكننا زيادة الوعي بطريقة سليمة، ولكن الرؤساء الأميركيين الذين تعاقبوا على البيت الابيض لم يعترفوا ان الذي حصل للشعب الارمني على يد العثمانيين هو إبادة جماعية، وهذا خطأ».
وقال روجر باسماجيان من جهته «لم يحصل الأرمن على العدالة باعتراف العالم بالجرائم التي ارتكبت ضدهم. فقد ذبحوا وطردوا من أراضيهم وسرقت منازلهم وأملاكهم من قبل الأتراك والأكراد»، وأضاف «أن الحكومة الأميركية ترفض ليس فقط الاعتراف بالإبادة الجماعية ولكن تساعد أيضاً تركيا على تغطية الأمر». الدكتور هيغ أوشاغان، بروفسور الصحافة فـي جامعة وين ستيت ورئيس حزب «الطاشناق» الأرمني الاميركي فـي الجزء الشرقي من الولايات المتحدة أفاد ان «النضال الأرمني من اجل العدالة يحدِّد هويتهم الثقافـية اكثر من اي شيء آخر». واكد ان الأرمن «يناضلون من اجل اعتراف العالم ووسائل الاعلام الكبرى بان الذي حصل لهم كان مجزرة حقيقية». واشار الى ان الرئيس أوباما ونائبه جو بايدن ووزير الخارجية جون كيري جميعهم اعترفوا بالإبادة عندما كانوا أعضاءاً فـي الكونغرس لكنهم توقفوا عن استعمال تعبير الإبادة عندما أصبحوا أعضاءاً فـي السلطة التنفـيذية.
وشدد على ضرورة اعتذار تركيا عن جرائم العثمانيين والتعويض على أحفاد الناجين من المجازر والساكنين فـي جمهورية أرمينيا.
الأب غرابيد كوشاكيان، كاهن كنيسة القديس جون فـي ديترويت الكبرى أوضح ان الإبادة تركت «آلاما لا تمحى فـي الوعي الأرمني، ورفض تركيا الإقرار بمسؤوليتها عن المجازر جعل عملية التعافـي من اثارها صعبة بل مستحيلة».
وقال كاشاتريان ان «الرأي العام الأميركي هو فـي الغالب يجهل الإبادة الجماعية لأن الجالية الأرمنية الأميركية هي أقلية صغيرة مع القليل من النفوذ السياسي». واستطرد «أعتقد أيضاً أنه لو لم يكن لحكومتنا مصلحة عسكرية سياسية فـي الحفاظ على قواعد عسكرية أميركية فـي تركيا، لكانت حكومة الولايات المتحدة اعترفت بسهولة جداً بالإبادة الجماعية».
ومع حلول الذكرى المئوية، اكتسب الضغط من أجل الاعتراف الرسمي بالإبادة الارمنية زخماً قوياً. فـيوم الأربعاء، ١٥ نيسان (ابريل) أصدر البرلمان الأوروبي قراراً بإحياء الذكرى المئوية للمأساة التاريخية وحث تركيا على الاعتراف بها.
لكن تركيا أدانت من جهتها القرار. وتدعي أنقرة أن المجازر التي ارتكبت ضد الأرمن كانت جزءاً من الحرب الأهلية، وليس إبادة جماعية. ويوم الأحد ١٢ نيسان (أبريل) اعترف أيضاً البابا فرانسيس بالمجازر ووصفها بأنها «أول إبادة جماعية فـي القرن العشرين».
ولجأ الأرمن الأميركيون إلى وسائل التواصل الاجتماعي لإحياء هذه المناسبة عن طريق تغيير صور ملفاتهم الشخصية إلى وردة ارجوانية خمسية يتوسطها لون أسود محاط بقرص أصفر.
وأصبحت الوردة، والمعروفة باسم «لا تنساني»، الشعار الرسمي للذكرى المئوية لمجزرة الأرمن.
«اللون الأسود يرمز الى الرعب وذكريات الإبادة الجماعية»، حسب تفسير موقع على الإنترنيت عن الإبادة الجماعية الأرمنية المئوية، وهو موقع مخصص لإحياء هذه المناسبة، وأوضح الموقع أيضاً «إن اللون الأصفر يرمز إلى أشعة الشمس، مما يعطي الأمل فـي العيش وخلق ضوء شعاعي داخلي أرجواني يرمز للمشاركة فـي الاعتراف وإدانة الإبادة الجماعية للأرمن الراسخة فـي صميم الوعي الذاتي الأرمني الذي يرتديه خدام الكنيسة الأرمنية الرسولية».
أما الجالية الأرمنية الأميركية فـي ديترويت فقد أحيت الذكرى السنوية للإبادة منذ بداية العام من خلال سلسلة من الأحداث. يوم السبت ١٨ نيسان (أبريل) فـي الساعة ٧ مساء حيث أحيت الجالية ذكرى الإبادة الجماعية الأرمنية المئوية من ديترويت الكبرى بحدث تعليمي فـي ثانوية ادسل فورد فـي مدينة ديربورن، بحضور الصحفـي البريطاني روبرت فـيسك والممثل الأميركي الأرمني والروائي إريك بوغوسيان.
Leave a Reply