عماد مرمل
قبل أيام، استعاد اللبنانيون ذكرى مرور اربعين سنة مرت على اندلاع الحرب الاهلية، فـي 13نيسان 1975.. ذلك اليوم المشؤوم الذي شكل نقطة تحول فـي حياة كل من عاصر هذه الحقبة.
لم يكن أحد يتوقع ان رحلة تلك البوسطة الشهيرة التي تعرضت لاطلاق النار آنذاك فـي منطقة عين الرمانة، شرقي بيروت، ستطول على مدى 15عاما مخضبة بالدم والالم، ذهب ضحيتها مئات آلاف الضحايا الذين توزعوا بين شهداء وجرحى ومهجرين ومهاجرين ومخطوفـين ومفقودين.
هي حرب، انخرط فـيها كثير من اللبنانيين، بدوافع متفاوتة.. ونهاية واحدة. البعض حمل السلاح لحماية وجوده من خطر حقيقي او افتراضي، والبعض الآخر حمله سعيا الى تغيير النظام الطائفـي، بينما استشرس آخرون فـي الدفاع عنه.. لكن فـي نهاية المطاف انتهت الحرب الى تسوية الطائف التي تبين انها لا تستأهل بالطبع الاثمان الكبرى التي دفعها اللبنانيون، على ضفتي المواجهة.
بالتأكيد، لم تكن هناك حاجة الى كل الدماء التي سالت للوصول الى تلك النتيجة المتواضعة التي انتهى اليها مؤتمر الطائف، تحت مظلة سعودية – سورية – اميركية، حيث أعيد إنتاج النظام السياسي مع بعض التعديلات، وجدد الخارج خلايا وصايته على لبنان، بعد تقاسم الادوار.
لقد أتت هذه التسوية السياسية الهجينة، برعاية اقليمية ودولية، لتصفع كل الاحلام- الاوهام التي شاركت المقاتلين فـي معاركهم، وأوحت لهم انهم أصحاب القرار، وأهل الحل والربط.
وها هي التجربة تُبين بعد مرور قرابة ستة وعشرين عاما على ولادة الطائف ان النظام السياسي ازداد ترهلا وان الخارج اصبح اقوى حضورا، وان القلق بات هاجسا عابرا لكل الطوائف والمذاهب وليس محصورا بفئة.
كان اللبنانيون يحتاجون الى 15 عاما من الصراع العبثي والدموي( 1975- 1990) حتى يكتشفوا ان الكثير من المصالح الخارجية امتطت صهوة أحصنتهم الجامحة، لتحقيق أهداف لا علاقة لها بالشعارات المحلية الصنع.
صحيح ان المجمتع اللبناني يزدحم بالتناقضات المزمنة القابلة للانفجار، كما تدل التجارب منذ عام 1860، حين اصطدم الدروز والموارنة فـي الجبل، لكن الصحيح ايضا ان الخارج اتقن، ولا يزال، فن اللعب على هذه التناقضات وتوظيفها فـي خدمة مصالحه، مستفـيدا من حاجة الفئات اللبنانية المتنازعة الى الدعم والحماية من خلف الحدود فـي مواجهة بعضها البعض.
وهكذا، فان الحرب التي اندلعت عام 1975 كانت مركبة، ومتعددة الطوابق، بعدما اختلط فـيها الداخلي بالخارجي، فشاركت فـيها الدول الى جانب، او خلف، الميليشيات المحلية، الى حد ان البارجة الاميركية الشهيرة «نيوجرسي» حطت على شواطئنا وقصفت الجبل، من دون إغفال أدوار الجيوش الاجنبية الاخرى «التي مرت من هنا».
ولا تقل مسؤولية القوى اللبنانية عن الحرب فداحة، بعدما استسهلت اللجوء الى العنف وأوغلت فـيه، وراحت كل منها تستقوي بطرف أجنبي، ضد الاخرى، لتحقيق النصر، متوهمة ان بامكانها ان تستخدم الآخرين لخدمة أهدافها، قبل ان تتكشف الحقائق المرة وتتضح الاحجام الحقيقية للاعبين الداخليين فوق مسرح لعبة الامم.
وإذا كانت الحرب قد اندلعت عام 1975 بفعل الاحتكاك بين مواد سريعة الاشتعال، هي الصراع الاجتماعي- الطبقي الذي احتدم مع اتساع أحزمة البؤس، الامتيازات العائدة الى «المارونية السياسية» والتي ولدت شعورا بالغبن لدى جزء من اللبنانيين، والعوامل الاقليمية- الدولية الرافدة.. فان ما يدعو الى القلق هو ان عوامل مفخخة، من نوع مشابه أو مغاير، لا تزال كامنة فـي التربة اللبنانية، بحيث تظل قابلة للانفجار متى فُقدت السيطرة عليها.
ومن يلقي نظرة على الواقع اللبناني الحالي، سرعان ما يتبين له انه مثقل بالاحتقان المذهبي، والانقسام السياسي حول خيارات استراتيجية، والنفوذ الخارجي الوازن، والمصاعب الاقتصادية، والفوارق الاجتماعية، وتواجد اكثر من مليون نازح سوري، وهي كلها مواد سريعة الاشتعال.
ويتفق كثير من المراقبين على انه لولا القرار الخارجي الكبير بتحييد لبنان عن حرائق المنطقة، فـي المرحلة الحالية، لكان برميل البارود قد انفجر، مع فارق جوهري بالمقارنة مع تجربة 1975، وهو ان الصراع سيتخذ هذه المرة بُعداسنيا- شيعيا، بعدما كان فـي الماضي طائفـيا بين المسلمين والمسيحيين.
وما يساهم أيضا، حتى الآن، فـي عدم انزلاق لبنان مجددا الى دوامة العنف الأهلي، هو ان من يملك السلاح والقدرة فـي هذه الحقبة، أي حزب الله، لا يريد الحرب الداخلية، لانه يدرك ان كلفتها على خيار المقاومة ستكون باهظة. كما ان عجز الاطراف الاخرى فـي لبنان عن تحقيق توازن قوة مع الحزب، له دور فـي منع او تأجيل الحرب.
لكن الضمانة الاساس والثابتة لتجنب الغرق مجددا فـي وحول الصراع المسلح تبقى فـي ان يستخلص اللبنانيون جميعا الدروس والعبر من حرب 1975، ويقتنعوا بعبثيتها، حتى لا يستسهل أحد تكرارها، فهل حصلت فعلا هذه المراجعة، وهل سقط خيار استخدام العنف من الحسابات والقناعات، ام ان هناك من ينتظر اللحظة المناسبة ليخوض المغامرة من جديد؟
والمفارقة انه وبعد مرور 40عاما على اندلاع الحرب الاهلية، فان «لعنة لبنان» حلت على العديد من الدول العربية التي تعاني اليوم من نزاعات دموية حادة، وتفتيت فـي النسيج الوطني، وكأن بعض العرب لم يتعظ من التجربة اللبنانية، وأراد ان يتعلم من كيسه.
Leave a Reply