قبل ثلاثة عقود، دعيت إلى إلقاء خطاب أمام جمهور من الفلسطينيين – الأميركيين، حول المطلوب عمله من أجل تغيير السياسة الأميركية تجاه حقوق الشعب الفلسطيني. وتحدث في تلك المناسبة ممثل لمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي أطلع الحضور على الجهود المبذولة في الأمم المتحدة لدعم القضية الفلسطينية. ولم يكن في نيتي إجراء مناقشة، ولكن هذا ما حدث بالضبط. والقضايا التي اثيرت آنذاك تظل ذات أهمية اليوم.
سياق تلك الندوة كان هاماً، فقد كان الفلسطينيون في خضم الانتفاضة الأولى، وتأثرت المواقف الأميركية لمشاهد القمع الإسرائيلي للفلسطينيين. ومن الأمثلة الواضحة على هذا التغير، ذلك التحالف الذي استطعنا بناءه بدعم من الحملة الانتخابية للمرشح الرئاسي آنذاك، جيسي جاكسون. فقد تمكنا معا من اقرار برنامج سياسي للحزب الديموقراطي في 10 مؤتمرات عامة للحزب، يؤيد حقوق الشعب الفلسطيني، وتُوّج ذلك بالدعم العلني لهذه الحقوق في المؤتمر القومي للحزب الديموقراطي عام 1988.
وكان من الواضح أن التحرك بشأن هذه المسألة ممكن. ولذلك ركز عرضي على ما قمنا به وما رأينا أنه ما يزال من الممكن القيام به لإحداث تغيير حقيقي في المواقف الاميركية. وتحدث ممثل منظمة التحرير الفلسطينية عن استراتيجيتها الدبلوماسية. وأشار إلى أنه على الرغم من الاصطدام المستمر بحق النقض الأميركي في مجلس الأمن، فإن الفلسطينيين كسبوا التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة بفارق كبير وصل الى 143 مقابل 3 أصوات. وتعهد بأنه إذا استمرت سياسة الولايات المتحدة في تجاهل أو عرقلة الحقوق الفلسطينية، باللجوء إلى مجلس الأمن مرة أخرى في الخريف لتقديم قرار آخر. عند تلك اللحظة، كان علي التدخل. ففي حين اعترفت بأن الفلسطينيين قاموا بعمل استثنائي بضمان نيل اعتراف واسع بالحقوق الفلسطينية حول العالم، فقد تساءلت عن جدوى العودة إلى مجلس الأمن للحصول على فيتو اميركي آخر، وتساءلت: ألم يكن من الأفضل تركيز الجهود على إحداث التغيير داخل المجتمع الأميركي بدل الاستمرار في المسار الذي لم يُسفر سوى عن هزائم محبطة؟ وفي حين أن الكثير قد تغير في العقود الثلاثة الماضية، إلا أن هناك دروسا ينبغي استخلاصها من ذلك اللقاء القديم.
في المقام الأول، فشل الفلسطينيون في تبني استراتيجية سياسية لتغيير موقف الولايات المتحدة، أو الاعتراف بأنه من دون إحداث هذا التغيير، فإن «الانتصارات» في الأمم المتحدة تبقى رمزية وجوفاء. وبسبب الفشل في إشراك الرأي العام الأميركي بطريقة منهجية، أهدر الفلسطينيون الكثير من الفرص. فبدلاً من بناء قاعدة تأييد لهم داخل المجتمع الأميركي، اعتمدوا على حسن نوايا المسؤولين الأميركيين – من دون أن يدركوا أن هؤلاء السياسيين سيحّولون نهجهم عندما يواجهون ضغوطاً أو حملات إعلامية عدائية تقوم بها جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل. وهذه بعض الأمثلة على الفرص الضائعة: عندما تولى محمود عباس رئاسة السلطة الفلسطينية خلفا لياسر عرفات، كلفنا مجموعة من رجال الأعمال الفلسطينيين باستطلاع مواقف الولايات المتحدة تجاه رئيس السلطة الفلسطينية الجديد. ووجدنا أن عباس حصل على تقييم إيجابي بنسبة 53 بالمئة مقابل 16 بالمئة فقط كتقييم غير إيجابي. ولاحظنا أن هذه النتيجة، على الرغم من إيجابيتها، فلم تكن مستقرة، بل منبثقة من حقيقة أن كبار قادة الحزبين الجمهوري والديموقراطي كانوا يثنون عليه مقارنة بعرفات. ولاحظنا أن هذه التصورات الإيجابية، مهما كانت واهية، فإنها تتيح فرصة للبناء عليها. كما حذرنا من أنه إذا لم يتم تعزيز هذا التقييم الايجابي من خلال إشراك الشعب الأميركي مباشرة، فإن الهجوم المضاد من قبل الإسرائيليين سيقضي عليه. وبالفعل، فقد شن الإسرائيليون حملة لا هوادة فيها لتصوير عباس على أنه محّرض للعنف وقائد ضعيف رفض مراراً عروض السلام، وكان واضحاً أن الاتهامين باطلان، ولكن نجح نتانياهو وزملاؤه في اليمين المتطرف في هذه الحملة. وبعد عشر سنوات، أجرينا استطلاعاً آخر للرأي العام الأميركي الذي وجدنا أن تقييم عباس انقلب عنده، بحيث أصبح إيجابياً بنسبة 17 بالمئة فقط مقابل 56 بالمئة غير إيجابي!
وواصلت القيادة الفلسطينية، التي لم تتعلم الدروس الواضحة من كل هذا، العمل بأساليب الماضي. وهم، الآن، يفترضون حسن نية الرئيس ترامب، ثم يعربون عن خيبة أملهم من عدم التزامه الواضح بمحنتهم وصمته على السلوك العدواني من قبل إسرائيل، وأخيراً يهددون بالذهاب إلى الأمم المتحدة لإصدار قرار آخر. وفي الوقت نفسه، يفشلون في اعتماد استراتيجية للتأثير على الرأي الأميركي أو المناخ السياسي الذي تعمل فيه إسرائيل بحصانة. وهناك ملاحظة أخرى تتعلق بقدرة الجانب الإسرائيلي على استخدام سلطته السياسية وحملاته الإعلامية لقلب الواقع رأساً على عقب. فمنذ سنوات، يندد أنصار إسرائيل بالأمم المتحدة لكونها «مؤيدة للفلسطينيين تلقائياً»، خشية من الابتزاز العربي، أو معاداة للسامية. وفي الوقت نفسه، فإنهم يتجاهلون حقيقة أن الجماعات المؤيدة لإسرائيل بما في ذلك كل من «إيباك» و«باكس» والمسيح اليميني، (استخدمت سطوتها السياسية والمالية لتخويف الكونغرس وجعلته مؤيدًا تلقائيا لإسرائيل). ففي هذا العام وحده، تم طرح أكثر من 30 مشروع قانون مؤيدة لإسرائيل في الكونغرس، موزعة بالتساوي تقريبا بين تلك التي تدعو إلى معاقبة السلطة الفلسطينية، وتأييد مطالبة إسرائيل بالقدس، وتهديد الأمم المتحدة، وفرض عقوبات على من يؤيدون المقاطعة ضد إسرائيل. وهنا تكمن المعضلة. فطالما أن إسرائيل تمارس نفوذاً لا مثيل له في واشنطن، فلن يتحقق أي تقدم نحو الحقوق الفلسطينية، كما أن قرارات الأمم المتحدة ستواجه إما بحق النقض، وإما بالانتقاد من الكونغرس، أو التهديدات بأن الولايات المتحدة ستحجب الأموال من المنظمة العالمية. ولكن هذا لا ينبغي أن يكون نهاية المطاف.
هناك مناخ سياسي متغّير في الولايات المتحدة، وهناك الفلسطينيون الأميركيون والعرب الأميركيون، وهناك حركة تقدمية قوية على نحو متزايد بين اليهود الأميركيين والأميركيين الأفارقة والتيار الرئيسي من البروتستانت والتحرريين والمحافظين التقليديين – الذين يدعمون العدالة للفلسطينيين. لقد اجتمعوا، من تلقاء أنفسهم للمطالبة بالتغيير، رداً على السلوك الإسرائيلي. فالقيادة الفلسطينية لم تنشئ هذه الحركة ولا يمكنها توجيهها أو التدخل في تطويرها، لكن ينبغي لها أن تأخذ في اعتبارها أنها يمكن أن تكون استراتيجية للتغيير. ما يجب القيام به هو إدراك حقيقة وجودها والتصرف على هذا الأساس. على القيادة الفلسطينية أن تتوقف عن العمل كما لو كانت الألعاب الوحيدة في المدينة هي فقط «المبادرات» الآتية من الإدارة أو التصويت في الأمم المتحدة. ويتعين عليها أن تدرك أن الرأي الأميركي يتغير ويطور الثقة التي يمكن أن ُتحدث التغيير الأكبر. وهي بحاجة إلى التحدث مباشرة إلى الشعب الأميركي، ولا سيما أولئك الذين يدعمون حقوق الفلسطينيين. وهي بحاجة إلى تشجيع ونشر هذا النوع من العمل الجماعي السلمي الذي شاهدناه في الأزمة الأخيرة في القدس. إن الطريق إلى التغيير طويل، ولكن لا بديل عنه.
Leave a Reply