عماد مرمل – «صدى الوطن»
بينما كانت القوى السياسية اللبنانية منشغلة في مناكفاتها الداخلية، ضرب الإرهاب من جديد، مستهدفاً هذه المرة بلدة حدودية تقع في أقصى البقاع الشمالي هي القاع، عبر موجتين من الانتحاريين، في هجوم غير مسبوق من حيث حجمه. وإذا كانت العمليات الإرهابية في السابق قد تركزت على البيئة الحاضنة لـ«حزب الله»، سواء في الضاحية الجنوبية أو في البقاع، فان الاعتداء الاخير على القاع شكّل انعطافة في «بنك أهداف» المجموعات التكفيرية، باعتباره كان موجهاً ضد بلدة مسيحية، تنطوي على رمزية خاصة في الوجدان المسيحي، كونها دفعت أثماناً باهظة خلال الحرب اللبنانية.
وقد أتى هذا التطور الذي تزامن مع الهجوم على مطار أتاتورك في اسطنبول ليثبت ان الإرهاب التكفيري لا يميز بين مسلم ومسيحي أو بين سني وشيعي، وان كل «آخر» هو في دائرة التصويب، بفعل فكر ظلامي وظالم، لا يقبل بالاختلاف والتنوع، ويشوه قيم الدين باسم الدفاع عنه.
كما أن شظايا الأحزمة الناسفة التي استخدمها الانتحاريون في «غزوة القاع» أصابت نظريات سياسية كانت سائدة قبل التفجيرات الاخيرة، ومن بينها واحدة تفترض أن البيئة الشيعية الحاضنة للمقاومة في لبنان هي المستهدفة حصراً من التكفيريين، ردا على التدخل العسكري لحزب الله في سوريا، فإذا بالإرهابيين يهاجمون بلدة مسيحية لا علاقة لها بكل ما يجري في الميدان السوري، بل ان بعض الاحزاب الموجودة في القاع معروفة بخصومتها مع الحزب ومعارضتها لخياراته، كالقوات اللبنانية، من دون ان يشفع ذلك للبلدة أو يحميها من عاصفة التكفيريين.
«الجيش والشعب والمقاومة»
ويعتبر المتحمسون لخيارات «حزب الله» أن «صدمة القاع» أثبتت أن قرار الحزب بملاحقة التكفيريين حتى منابعهم في العمق السوري هو قرار في محله، على قاعدة الحرب الوقائية التي تستشرف الخطر وتستبقه قبل أن يتجاوز الحدود ويطرق أبواب الداخل اللبناني، معتبرين أن الطرح المضاد الذي يحمّل الحزب مسؤولية استدراج الإرهاب إلى لبنان قد تلقى ضربة قوية بعد الاعتداء على مسيحيي القاع، عن سابق تصور وتصميم.
وهناك من يفترض أيضاً أن معادلة «الجيش والشعب والمقاومة» انتعشت مجدداً في أعقاب أحداث القاع التي فرضت ترجمة عملية لهذه المعادلة على ارض الواقع، بمعزل عن كل أشكال التنظير السياسي، إذ أن الأهالي سارعوا تلقائياً وفطرياً إلى مقاومة التهديد التكفيري بحمل السلاح للذود عن بلدتهم -ومن بينهم العديد من النسوة- لمؤارزة الجيش في مواجهة الإرهابيين وحماية البلدة من أي استهداف جديد، قبل أن يطلب منهم الجيش لاحقاً سحب المظاهر المسلحة، بعدما سيطر على الموقف واطمأن السكان إلى إمساكه بالوضع.
وكان لافتا للانتباه في هذا السياق، أن النائب في كتلة «القوات اللبنانية» أنطوان زهرا الذي زار القاع متضامناً، بادر مع مجموعة من رفاقه إلى حمل السلاح، لتأكيد جهوزية «القوات» للقتال دفاعاً عن أهالي البلدة، إذا لزم الأمر، وقد انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صور لزهرا وهو في حالة الاستنفار، علما أن رئيس «القوات» سمير جعجع عرف برفضه الشديد لأي سلاح خارج سلطة الدولة.
ماذا قال بري؟
وترددت أصداء هجوم الانتحاريين الثمانية على القاع بقوة في مقر الرئاسة الثانية في عين التينة، حيث لاحظ الرئيس نبيه بري أن الاعتداءات على البلدة رسمت مساراً بيانياً جديداً للإرهاب.
ويقول بري لـ«صدى الوطن» إن الجماعات التكفيرية التي عجزت عن تحقيق مراميها عند الحدود الجغرافية للوطن، حاولت التعويض عن فشلها، من خلال السعي إلى اختراق نسيج المجتمع اللبناني عبر ضرب بلدة القاع.
ويعتبر بري أن الانكشاف السياسي والدستوري بفعل شلل مؤسسات الدولة يشجع الإرهابيين على تنفيذ اعتداءاتهم، مفترضين أن هذا الواقع يشكل فرصة أمامهم للتحرك بأريحية، «ما يستدعي منا أن نسارع إلى سد هذه الفجوة وتعزيز مناعة المجتمع والدولة عبر إعادة الانتظام إلى المؤسسات الدستورية من خلال انتخاب رئيس الجمهورية ووضع قانون انتخابي جديد واجراء الانتخابات النيابية ومن ثم تشكيل حكومة منتجة»، وهذه الامور مجتمعة تشكل «السلة المتكاملة» التي اقترحها دولة الرئيس على طاولة الحوار لمناقشتها والتوصل إلى تسوية شاملة، على غرار ما حصل في مؤتمر الدوحة عام 2008، حيث «لم يكن ممكنا التوافق على انتخاب ميشال سليمان رئيسا للجمهورية لو لم يتم في الوقت ذاته التفاهم حول قانون الانتخاب وتركيبة الحكومة».
ويلفت بري الانتباه إلى أنه لا يمانع في انتخاب الرئيس فوراً، إذا كان ذلك متيسراً، لكن الواقع الحالي كما التجربة السابقة يُبينان أنه من المتعذر انتخابه بمعزل عن إقرار البنود الأخرى في السلة المفترضة، مضيفاً: «ليت القيادات المسيحية تحسم هذا النقاش وتبادر إلى التوافق على رئيس من بينها، لكانت توفر علينا الكثير»، والمفارقة هنا أن القوى المسيحية لا تتفق، وفي الوقت ذاته ترتاب في أي لقاء إسلامي يمكن أن يحصل وتسارع إلى اعتباره بمثابة تحالف موجه ضد المكوّن المسيحي. ويبدي بري قلقه من بعض الطروحات المتطرفة والمتعصبة التي سبقت وتلت الهجمات الانتحارية على القاع، متلمساً نزعة تقسيمية لدى بعضها.
ويشدد بري على أهمية التماسك الوطني في مواجهة الإرهاب، مشيراً إلى أن الوحدة تمثل السلاح الأمضى في المعركة ضد التكفيريين الذي يسعون إلى احداث الفتنة المذهبية أو الطائفية لانها تشكل الممر الآمن لهم إلى الداخل اللبناني.
ويقول بري إن الإرهابيين حاولوا في الماضي إشعال نار الفتنة بين السنة والشيعة عبر بوابة عرسال لكننا نجحنا في إفشال مخططهم، سواء بالحوار الداخلي أو بالجهد الذي بذلته المؤسسة العسكرية والقوى الأمنية، وها هم يعيدون الكرّة سالكين طريق القاع هذه المرة، مؤكداً أن التصدي للتكفيريين الذين يستهدفون كل لبنان، يجب أن يندرج بدوره في اطار عمل وطني عام.
ويشير بري إلى أنه إذا كان اتفاق اللبنانيين على الملفات السياسية الخلافية هو أمر صعب حالياً، فإن «الحد الأدنى المطلوب في ظل هذه الأوضاع الدقيقة والحرجة هو توحيد الصفوف في مواجهة التهديد الإرهابي المشترك الذي تأكد لنا أنه لا يميز بيننا».
Leave a Reply