لم تُوحِ العلاقة المتأزمة بين جناحي التمثيل الفلسطيني الرئيسين حركة “فتح” وحركة “حماس” انهما كانا قريبين بأقل قدر من الاحتمال من تفاهم على حل جميع القضايا العالقة بينهما في يوم واحد، منذ أن حدث الافتراق بينهما قبل نحو أربعة أعوام إثر سيطرة حركة “حماس” عسكريا على قطاع غزة وإقدامها على طرد فتح من القطاع وادارته بمعزل عن السلطة الفلسطينية في رام الله، وقد شهدت العاصمة المصرية في السنتين الماضيتين محاولات عديدة للوصول الى قواسم مشتركة بين التنظيمين المتخاصمين دون أي جدوى.
بل إن التوتر الذي ساد بين الحركتين الفلسطينيتين في الأسابيع القليلة الماضية كان عاليا الى حد تبادل التخوين الصريح، وشهدت ساحتا قطاع غزة والضفة الغربية حملات اعتقالات متبادلة لنشطاء من الحركتين.
ما الذي جرى؟ وكيف هبط “الوحي” على قيادتي الحركتين الفلسطينيتين فبادرتا الى الاستجابة السريعة للدعوة المصرية القديمة-الجديدة لعقد لقاء مصالحة وتفاهم في العاصمة المصرية جرى خلاله إنهاء كل أوجه الخلاف، وفق “الورقة المصرية” إياها، والاتفاق على تشكيل حكومة انتقالية من التكنوقراط للإشراف على مرحلة انتقالية يجري خلالها الاعداد لانتخابات تشريعية جرى التوافق ايضا على تحديد تاريخ لها في أقرب وقت.
ثمة كثير من التحليلات التي راجت بسرعة حول الأسباب “السحرية” التي مكنت القاهرة من جمع الطرفين الفلسطينيين وتحقيق هذا الاختراق غير المسبوق في العلاقة بينهما منذ حصول الافتراق الذي أحدث شرخا خطيرا في القضية الفلسطينية، كان يهدد بالقضاء على آخر أمل فلسطيني في تحقيق حلم الدولة الموعودة، على وقع سياسة الاستيطان الاسرائيلية التي تسارعت وتيرتها خلال الأشهر والسنوات القليلة الماضية، والتي بلغت حدا بالغ الخطورة مع بلوغ الاستيطان ذروته في تهويد القدس المحتلة وتقويض أية أسس محتملة لقيام كيان فلسطيني على الأراضي المحتلة عام 1967.
السلطة الفلسطينية أعلنت مؤخرا عن نيتها باعلان قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وطلبت من المجتمع الدولي الاعتراف بهذه الدولة.
وقد خرج الاعلان الفلسطيني من المخاض اليائس الذي باتت القضية الفلسطينية أسيرة لتعقيداته، والذي لم يكن الانقسام الفلسطيني الداخلي خلال السنوات الأخيرة سوى أحدث مظاهر الانهيار الذي كان يلوح في الأفق، مع تراجع الاهتمام العربي والدولي بهذه القضية التي شكلت على مدى العقود الستة الماضية محور الصراع العربي الاسرائيلي، ودينامو ما بات يعرف بقضية الشرق الأوسط.
بعض التخمينات يرد هذا الاختراق المفاجئ والكبير على جبهة الخلاف الفلسطيني-الفلسطيني الى حاجة رئيس السلطة المنتهية ولايته محمود عباس الى ورقة التضامن الفلسطيني لرفعها بوجه اسرائيل والادارة الاميركية في محاولاته المستميتة لتحقيق الحلم الفلسطيني بقيام “الدولة”. وهذا التخمين ليس بعيدا عن الواقع، الا أنه لا يشكل القاعدة الأساسية للتحليل بشأن ما آلت إليه القضية الفلسطينية.
فليس سرا أن هذه القضية تحولت منذ سنوات طويلة الى ورقة تجاذب واستثمار لدى أنظمة عربية عديدة عملت على توظيفها لتعزيز إمساكها بهذه “الورقة” ومساومة أميركا والغرب على بقائها واستمرارها، واستقرار أنظمتها.
فالكل كان يرفع لواء القضية الفلسطينية ويستخدم شعاراتها لتسويق عناصر قوته ونفوذه والضغط بها في مواجهة مخططات ومشاريع اميركية وغربية واقليمية، قبل أن يحدث زلزال الحادي عشر من أيلول، وما تبعه من تداعيات تمثلت في احتلال أول بلد عربي واسقاط نظامه، على مرأى ومسمع وبمساعدة من بعض النظام الرسمي العربي الذي شهد أخطر تصدعاته في العقد الأخير.
لكن المشهد العربي المستجد على وقع الانتفاضات والثورات التي نجحت حتى الآن في اسقط نظامين عربيين تميزا بالسطوة الأمنية المطلقة في كل من مصر وتونس والهزات الارتدادية لهذا الزلزال التي تتبدى فيما يشهده اليمن والبحرين وليبيا وأخيرا سوريا..
هذا المشهد، بأحداثه السورية الأخيرة خصوصاً، سرع من تشكل قناعة فلسطينية مشتركة (لدى حماس وفتح) أن الظرف العربي الراهن لم يعد يوفر أية مساحة لترف ممارسة الخلافات، وتأجيل استحقاق المصالحة الفلسطينية الذي بدونه كانت القضية الفلسطينية ستدخل في النزع الأخير من موتها البطيء، وبعدما أيقن طرفا الخلاف الفلسطيني أن العالم العربي برمته قد دخل بالفعل في حقبة التغيير الجذري في مخاضات تفاوتت قساوتها بين بلد وآخر إلا أنها جميعها محكومة بخواتيم ترضي الحد الأدنى من تطلعات الشعوب العربية الى الحرية والكرامة، وبعدما انكشف عجز النظام الرسمي العربي بصورته السابقة عن تحقيق تطلعات شعوبه للحاق بركب الديمقراطية والتطور والتنمية التي فاتها قطارها منذ زمن بعيد إلا أنها مصممة على اللحاق به مهما بلغت التضحيات.
والشعب الفلسطيني الخاضع للاحتلال في معظم أراضي الضفة الغربية، والمحاصر في سجن كبير في قطاع غزة آلمه أن يرى ربيع الشعوب العربية الذي أطلت نسائمه أولا من تونس، ثم من مصر ولفحت سائر الشعوب من محيط العرب الى خليجهم، أن يظل رهينا لخلاف فصيليه الأكبرين اللذين يمارسان استرهانا مكشوفا ومعيبا لأنظمة عربية بائسة، لم تعد تمثل لها القضية الفلسطينية أكثر من شعار خادع للاستمرار في تسويغ استعباد شعوبها واخضاعها وحرمانها من فرص التنمية والمشاركة السياسية وفي صنع مستقبل أجيالها، فبرز في الأسابيع الأخيرة شعار من قلب الوجع الفلسطيني: “الشعب يريد إنهاء الانقسام”.
كان على “فتح” و”حماس” أن يصغيا لهذه الصرخة لأن الشعب الفلسطيني الذي مارس نضالا اسطوريا ولم تخضعه كل ممارسات الاحتلال والبطش والتشريد المزمنة كان سيقول كلمته مدوية في وجوه قادته لو لم يبادروا الى الاتفاق على وجه السرعة في قاهرة الثوار التي تتلمس هذه الآونة طريق العودة الى دورها العربي الحاضن للقضية الفلسطينية ولكل قضايا الشعوب العربية التواقة الى التحرر والتقدم.
اتفاق القاهرة بين “فتح” و”حماس” هو أقل ما هو مطلوب من هاتين القيادتين المؤتمنين على أعدل قضية على وجه هذا الكوكب، وهو من بديهيات الوفاء لأماني الشعب الفلسطيني الذي أودع قضيته في أعناق قادة الحركتين وغيرها من الفصائل الفلسطينية، لا لكي تحترب وتنقسم، بل لتناضل من أجل تحقيق تطلعاته بالحرية والاستقلال مثل سائر شعوب الأرض.
أما الرد الاسرائيلي على الاتفاق الذي خير، على لسان نتنياهو، رئيس السلطة محمود عباس بين السلام مع حماس أو السلام مع اسرائيل فهو من الوقاحة والصلف اللذين يجب أن يقدما جرعة إضافية من الاصرار على المضي في توحيد الصوت الفلسطيني في مواجهة المشروع الصهيوني الإلغائي الذي يعمل نتنياهو وقادة اسرائيل لضمان استمراره وسط متغيرات عربية واقليمية ودولية تبشر بانهيار هذا المشروع العنصري وتقدم فرصة تاريخية لكسر عنق هذا المشروع واستعادة الحق الفلسطيني السليب من براثنه.
والاتفاق يمثل الخطوة الصحيحة الأولى على طريق استعادة الوحدة الفلسطينية واعادة احياء جذوة النضال الفلسطيني بكل الوسائل السياسية أو المدنية أو العسكرية المشروعة للتحرر من ربقة الاحتلال، وبصرف النظر عن الاختلافات “الإيديولوجية” بين الحركتين الفلسطينيتين التي لا تشكل في الواقع الفلسطيني أي مبرر للانقسام في ظل معاناة الشعب الفلسطيني من الاحتلال واستمرار حرمانه من حقه في هوية وطنية مستقلة والذي صار مسألة ضمير تقض مضاجع المسؤولين عن هذه المأساة المتمادية منذ أن تآمر المنتصرون على النازية في الحرب الكونية الثانية على مصير شعب بأكمله وخدروا أحاسيسهم وضمائرهم دونها لعقود طويلة.
فهل يتحول الاتفاق الذي حملته نسائم “الربيع العربي” الى ربيع فلسطيني طال انتظاره؟
Leave a Reply