الشيخ باقر برّي
ونحن نمرُّ بهذه المحنة المسمّاة «كورونا»، يجدر بنا أخذ الاحتياطات الكفيلة بالتقليل من أضرارها الماديّة والمعنويّة، لكي نكون على أهبة الاستعداد للاحتمالات كافَّةً، ولكي ينظر الله الرحمن الرحيم إلينا بعين اللطف والرحمة.
ولكن بعد ذلك، وكما قبله، يجدر بنا أن نتحلَّى بسجية الرحمة والتراحم، التي هي ربما من أبرز السجايا التي يدعو الإسلام والأديان السماوية للتحلّي بها، فهي الخصلة الحميدة التي تجعل المؤمن يحمل دائماً الخير والبركة لنفسه ولأهله ولمجتمعه ولآخرته.
وعادة ما تنبعث هذه الخصلة من طينة الإنسان الطيّب، ومعدنه الثمين، ومن شعوره وإحساسه بما يقاسيه الآخرون من هموم وفقر وآلام وأحزان وأمراض، فيحمله ذلك على الوقوف إلى جانبهم وإسداء العون إليهم، فهي في هذا المعنى ليست مجرَّد تعاطف وتألُّم على حالهم فحسب، وإنما هي فعل ومشاركة حقيقية في تغيير واقع من يحتاج إلى مساعدة.
والمؤمنون يتواصون في ما بينهم، بكلّ ما هو خير وفيه صلاح للجميع، بحيث يُذكّرون بعضهم بعضاً بضرورة الرحمة. ومن أروع تلك التذكيرات الإنسانيّة قول بعضنا لبعضٍ بما رُوي عن النبي (ص): «إرحمْ مَنْ في الأرض، يرحمك من في السماء»!
وفي حياة كلٍّ منا عشرات المواقف والظروف الإنسانية التي تحتاج أحياناً الى التواصي بالمرحمة، خاصة في التعامل مع المرضى والمقعدين الذين لا يمكنهم القيام بأعمالهم اليومية في الظروف الاعتيادية، ناهيك عن ظروف العزل ومنع التجوّل.
وأفضل أنواع التراحم على الإطلاق “التفقُّد”، أي استشعار حاجة الآخرين الى العون والمساعدة، والمبادرة لتلبيتها سواء كانت أغذية أو أدوية أو حاجات عامّة، من غير أن نُشعِرَ المسنّين أو المرضى أو المقعدين بالحرج وبضرورة الطلب بأنفسهم، حيث يمكن التواصل معهم عبر الجوّالات أو الهواتف النقّالة، ويمكن –في هذه الحال– أن نراعيَ التعليمات الصحيّة، بعدم التماس المباشر، بأن نضع ما يحتاجونه على أبوابهم. وقد ورد في الحديث: «اللهُ في عون العبد ما دام العبدُ عوناً لأخيه»!
وفي الحديث أيضاً أنَّ الرسول الأعظم (ص) قال لأصحابه: «لن تؤمنوا حتى تَرحموا». قالوا: يا رسول الله كلُّنا رحيم. قال (ص): «إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكنها رحمة عامَّة».
بمعنى أنَّ الإيمان الحقيقي ينعكس رحمةً في قلب المؤمن، وأن رحمةً كهذه لا تقتصر على القريب ولا على المؤمنين فحسب، بل يجب أن تعمَّ الناس جميعاً. فالمؤمن يحمل في قلبه ينبوعاً من الرحمة ينبغي أن يفيض على الناس جميعاً.
واليوم آن أوان أن نرحم بعضنا بعضاً، أن نرحم آباءَنا وأمهاتنا، صغارنا وكبارنا، أقاربنا وجيراننا، أولادنا وإخواننا، عمّالنا ومستخدمينا، فقراءَنا وأيتامنا، مرضانا وأصحّاءَنا، ليرحمنا الله برحمته التي وسعت كلّ شيء، فرحمة الله لا تُنال إلا برحمة الناس كما رُوي عن الرسول (ص): «من لا يَرحم لا يُرحَم».
هناك من إخوتنا وأحبَّتنا اليوم من فقدَ عمله في هذه المحنة، وهناك من قد يفقده بعد قليل إذا ما امتدَّت هذه المحنة وطالت لا سمح الله، وعلى ما يبدو فنحن ذاهبون إلى ذلك. والكثير من الأهل والأقارب والأصدقاء والمعارف لن يكون لديهم –بعد أن تنفد مدَّخراتهم– ما يكفي لسدّ رمق عوائلهم، ويحتاجون إلى تفقُّد أحوالهم والوقوف معهم في الظروف الصعبة.
وهناك أقارب لنا أيضاً في أوطاننا الأصلية، أو في دول العالم الفقيرة، وهؤلاء حبيسو بيوتهم، وقد خسروا أعمالهم، وربما هم يعيشون في دولٍ لا تؤمّن لمواطنيها العون والدعم في الأزمات، في دول دُمّر اقتصادها نتيجةً لنهب وحصار القوى العظمى والبلاد الغنية، ودول أُنهك اقتصادها وضاقت سبل العيش فيها نتيجةً لجور الحكام وفسادهم، وهؤلاء يحتاجون الى مدّ يد العون لهم. على أن هذا لا يعني أن نفكّر بالبعيد وننسى القريب، فالأقربون أولى بالمعروف، ولكن أفق المساعدات الإنسانية ليس له حدود ولا سقوف، ومن لم يكن أخاً لنا في الدين فهو أخٌ لنا في الانسانية!
إنّ بعض أصحاب الأعمال والأسواق والمحال التجارية قد يغلق محلَّه أو مصنعه خوفاً من هذا المرض، أو تنفيذاً للأمر بالإغلاق، ولكنه قد يمتلك مالاً وفيراً فلا ينبغي له وهو يلازم بيته أن يحجر على ماله وينسى عمَّاله، فأكثر هؤلاء العمَّال في الجالية من أصحاب الدخل المحدود الذين قد لا يكفيهم الراتب من شهر إلى آخر، والكثير منهم قد انعدمت حيلته جراء هذه الأزمة، وصاحب العمل إذا كان يملك مالاً وفيراً يتحمَّل المسؤولية الأخلاقية والمعنوية تجاههم، ويجدر به تشجيعهم ومنحهم ما يستحقّونه من أجور، والسؤال عن أحوالهم ومساعدتهم إذا طال أمد الإغلاق، أي لا ينبغي أن ننسى في وقت «المِحنة» من وقف معنا أيام «المِنحة» والسعة والسلامة، وقدّم لنا خدماته وحقَّق لنا ما نرجو من نجاح وأرباح.
وإن ننسى لا ننسى كبار السنّ الذين هم الآباء والأمَّهات والأجداد والجدَّات الذين لهم علينا من الأفضال ما لا يمكن عدُّه أو إحصاؤه. فلا بدَّ من أن تكون الأولوية لمساعدتهم في قضاء أمورهم وتسيير حياتهم اليومية، خصوصاً أنهم الفئة التي حازت النصيب الأكبر من الخوف من هذا المرض.
وهناك من أهلنا من يحتاج إلى الدعاء له بالرحمة، خصوصاً إلى الجنود المجهولين الذين يقفون اليوم على جبهات مواجهة هذا الوباء ومعالجة ضحاياه، والمقصود كلّ العاملين والعاملات في القطاع الصحي، من أطبّاء وممرضين وممرّضات وفنّيين وعمَّال… فهم اليوم مشاريع شهداء حيث أنهم يخاطرون بحياتهم من أجل إنقاذ حيوات الآخرين. هم طليعة المجتمع وجنوده الشجعان في هذه الأيام العصيبة، فالمستشفيات ملأى بالمصابين وأهل العاملين في القطاع الصحي يعيشون في قلق كبير من انتقال العدوى لأبنائهم.
لذلك لا يجب أن نبخل عليهم بالدعاء والتشجيع والدعم المعنوي… إنهم جيشنا الذي سلاحه ليس البندقية القاتلة، بل الحقنة الشافية.
فلهم كلُّ التحيَّة وأصدق الدعاء بالرحمة. إنّهم –وسائر من يقدّم العون اللازم في هذه المحنة– من عمّال الله وجنوده! إنهم بحقّ مفخرة الجالية!
ولا يُنال ذلك الفضل إلا بالتقوى التي هي خير الزاد.
وختاماً، ليس هناك ما هو أفضل من اختتام كلمتنا بمقولة الإمام الصَّادق (ع): «تواصلوا وتبارّوا وتراحموا وتعاطفوا».
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
Leave a Reply