قبل أن يمتلئ الأثير بموجات البثّ الفضائي، كان الفيلم المصري قد وجد الطريق إلى المشِاهد العربي، من خلال صالات السينما البائسة (كما في حالتنا)، وشاشات التلفزيون الرسمية المقطبة الجبين، وكان التسرّب عنوان تلك الفترة، فالطلاب يتسربون من مدارسهم إلى الصالات الرديئة، والآخرون يتسربون من أعباء حياتهم اليومية ويذهبون إلى تلك الساعة المتأخرة من يوم الخميس للالتحاق بفيلم السهرة العربي. وفي الوقت نفسه، كان الفيلم المصري يمارس الأداء ذاته.. عبر التسرب إلى عقولنا ووجداننا وذاكرتنا ونحن نسترخي على المقاعد المعطوبة، أو ونحن نتمدد في الفراش.
ليس مستغرباً إذن، أن يكون الفنانون المصريون نجومنا المفضلين، والممثلات المصريات فتيات أحلامنا. وليس مستغرباً أيضاً أنْ يبدأ الفيلم المصري علاقته مع المشاهِد بدءاً من منتصف الطريق، فالتواطؤ بين الفيلم والجمهور قائمٌ مسبقاً.
العلاقة بين الجمهور والفيلم هي التعريف الآخر لـ”شباك التذاكر”، المفتاح الذهبي في صناعة السينما، وبسبب من زَخَم تلك العلاقة، ازدادت الإنتاجات السينمائية امتثالاً لفلسفة السوق، وانبثقت تلك الموجة من الأفلام التي اصطلح على تسميتها بـ”أفلام المقاولات” حيث ساد ذلك التعريف: الفيلم المصري “حدوتة ورقصة وأغنية”..
واستطاع السينمائيون المصريون أن يستثمروا جميع الأصوات الغنائية، بدءاً من محمد عبدالوهاب وانتهاءً بشعبان عبدالرحيم، وأن يستثمروا جميع الراقصات بدءاً من نعيمة عاكف وبديعة مصابني وانتهاءً بالكثير من الراقصات المغمورات..
ويستطيع الراصد لتلك المرحلة أن يكتشف دون عناء أن كلا الاستثمارين -غالباً- ما كان يأتي في سياق تلفيقي، بحيث أن الأحداث لا تتطور من خلال بنيتها الدرامية، وبحيث أن المشاهِد يستطيع أن يتوقع مكان الأغنية أو الرقصة في الفيلم.
ما لم يكن في بال صانعي تلك الأفلام -أو أكثرهم على الأقل- أن مشاهد الرقص الشرقي هي من بين اللحظات الأغلى في تلك الأفلام بكل ما تثيره من مشاعر وانفعالات واتصالات مع جمال الجسد الأنثوي.. ولعل المفارفة أن القائمين على صناعة تلك الأفلام كانوا يحشرون تلك “الرَقَصات” في سياق لا تنتمي إليه، وكان المتفرج -بدوره- يقتطع تلك اللقطات ويدخِلها في سياق آخر، سياق يخصّه وحده بعيداً عن سياق الفيلم..
وهكذا.. بفضل “شباك التذاكر” سوف تمتلئ ذاكرة المتفرج بأسماء الكثير من الراقصات، أمثال: نعيمة عاكف، بديعة مصابني، تحية كاريوكا، نجوى فؤاد، سامية جمال زكي، فيفي عبدو..وغيرهن.
المثير.. أن الوعي العام كان سلبياً تجاه الرقص الشرقي والراقصات على حد سواء، والأكثر إثارة.. هو موقف المثقف -وخصوصاً الفنان- حيال هذا النوع من الفن على اعتباره أكثر أشكال الإغراء سلبية.. ذلك أنه (الرقص الشرقي) يعيش في المناطق الحارة، وقريباً جداً من الإثارة ومكامن التهييج النفسي والعاطفي.
وقد يدخل في باب الصواب، أن الكثير من صنّاع تلك الأفلام، قد ساهموا إلى حد كبير، في تكوين ذلك الموقف السلبي تجاه الرقص الشرقي والراقصة الشرقية عموماً، فما أكثر تلك الأفلام التي تدور قصتها عن فتاة “شريفة” اضطرت إلى العمل كراقصة بسبب الفقر والظروف الاجتماعية والمعيشية الصعبة.. وما من شك أن فكرة سينمائية (متداولة على النحو) تحاول أن تتسول التبرير الأخلاقي لممارسة الرقص.. ستؤدي إلى خلق مشاعر سلبية نحو الرقص، على النحو الشائع الآن في الثقافة العربية.
ما يلفت النظر، في سيرة الراقصات الشرقيات، أن أحداً منهنّ لم يمتلك موهبة موازية في التعبير عن أهمية الرقص الشرقي، بل إن أكثرهنّ أميات، على عكس الراقصات الأجنبيات اللواتي بدأنَّ يمتهنّ الرقص الشرقي بكل تلك الحماسة، والقدرة على التعبير والانتصار لهذا الفن الجميل..دون أن يشكل تحصيلنّ العلمي العالي والرفيع حاجزاً أمام ذلك!!..
الآن.. لم يعد الفيلم المصري يحتفل بالرقص الشرقي على ذلك النحو، وإذا حضرت الأغنية فيه فإن البديل هو مجموعة من اللقطات التي تشبه الفيديوكليب. وفي الفيديوكليب.. يحضر الجسد الأنثوي من دون مقولاته الخاصة.. جسداً بدائياً، وسطحياً وأخرس، غير قادر على ضبط إيقاع المشاعر والانفعالات، ولإن تأثيرات مثل هذا الجسد لن تدوم طويلاً.. فسوف يتمّ اللجوء إلى المؤثرات الضوئية والمونتاجات والفلاشات السريعة.. أي أن ضبط الإيقاع يقوم من خلال عناصره بعيدة (وخارجية) عن الجسد..
هل يحتاج الانتصار إلى الرقص الشرقي إلى كل تلك الجرأة. وهل سيعني المثقفين شيئاً عندما يعلمون أن مثقفاً رصيناً وجاداً من طراز ادوارد سعيد كتب بحماس وشغف عن راقصة من طراز تحية كاريوكا!!..
Leave a Reply