محمد العزير
يستعيد رحيل الإعلامي الصديق أحمد بري تلك الغصة في حلق كل عربي أميركي اشتغل بالإعلام والثقافة والإبداع خصوصاً في منطقة ديترويت، الحاضنة لأكبر تجمع سكاني عربي خارج الشرق الأوسط.
تلك الغصة المزمنة التي أضافت إلى مهنة المتاعب وآلام الإبداع مزيداً من المتاعب والألم في أوساط نخبة أقل ما يقال فيها إنها شجاعة وريادية، حاولت أن تواكب مسيرة الجالية بالقلم والكلمة والصورة والريشة والنص، وأن تعطي لوجودنا الاغترابي، البعد الثقافي والمعلوماتي والإبداعي المطلوب.
تشبه قصة الزميل أحمد بري قصص معظم الذين رأوا الكلمة والتعبير ضرورة من ضرورات وجودنا في العالم الجديد، وحاجة ملحة لصد شيء مما يواجه كل المهاجرين الجدد إلى أميركا من تهميش وتمييز وسوء فهم، وقبل ذلك نصرة قضيتهم الأم قضية فلسطين وقضاياهم الوطنية الحيوية من حرب لبنان المشؤومة قبل اجتياحه واحتلاله على يد جيش العدوان الإسرائيلي إلى حرب الخليج العبثية الأولى ثم الغزو وبعده الاحتلال الأميركي للعراق وحروب «الأخوة» في اليمن، وصولاً إلى «الربيع العربي» الذي تكالبت عليه قوى لم تجتمع على شيء آخر قط، لتحوله إلى محرقة وحروب دامية.
لا يعرف معنى معاناة الاعلام العربي الأميركي المحلي من لا يعرف وضع العرب الأميركيين في مرحلة تشكلهم المجتمعي في ديربورن وديترويت ومحيطهما في ثمانينيات القرن الماضي حيث كان الخبر في حد ذاته حاجة ملحة في ظل انقطاع الاتصالات الهاتفية وتوقف وصول الصحف العربية بانتظام وعدم اهتمام الإعلام الأميركي المحلي بأخبار العرب، وتحيّز ذلك الإعلام الفاضح إزاء قضية فلسطين.
كان الزميل أحمد بري من الذين شكلوا اللوحة الإعلامية في «الجالية». كان برنامجه التلفزيوني الأسبوعي يوفر للمشاهد، الخبر المحلي والعربي ويشجع حالات النجاح العربية الأميركية في مجالات التربية والتجارة والتخصص ويغطي النشاطات المحلية والاجتماعية بمهنية ورصانة، وتمكن إلى حد كبير من الحفاظ على علاقة مودة مع جميع المكونات العربية الأميركية بطريقة تعكس شخصيته الهادئة ورصانته ومحبته للناس.
ولا يعرف معاناة الإعلام العربي الأميركي من لا يعرف حجم وطبيعة السوق العربية الأميركية الناشئة التي كانت ضئيلة الحجم وغير مكترثة بالإعلان ومهجوسة بسياسات الوطن الأم فتقاطع وتحارب الوسيلة الإعلامية التي لا تناسب الأهواء المتضاربة في ميدان ضيق، في ظل انعدام الاهتمام العربي الرسمي بتجمع اغترابي بعيد عن «مراكز القرار» في واشنطن ونيويورك، وتَحرّج المتمولين العرب الأميركيين من دعم صحافة تنطق بلغتهم خوفاً من ازعاج المحيط العام ذي النظرة الملتبسة إلى «الجالية» وذي الارتباطات الإعلانية والسياسية والمعنوية الوثيقة بأنصار إسرائيل بالجملة والمفرق.
في أجواء كهذه، كان العمل في الإعلام العربي الأميركي أشبه بالتطوع منه بالاستثمار، وكان على العاملين في الإعلام أن يوفروا مصدر رزقهم من أعمال ووظائف أخرى… حتى إذا ملأت شاشات الفضائيات العربية الممولة بسخاء النفط وغير المكترثة بما هو محلي أو عربي أميركي، كان على أصحاب المبادرات الإعلامية المحلية أن يواجهوا مصائرهم المحتومة، فاختفى الإنتاج الإعلامي المحلي على الشاشات التي اجتاحتها المسلسلات المكسيكية والمدبلجة ونشرات الأخبار المتواصلة ليصبح المشاهد العربي الأميركي مجرد مشاهد يتلقى أخباراً لا تعكس محيطه ولا تهتم بشؤونه، ولم تكلف تلك الفضائيات نفسها عناء الاستعانة بخبرات من أمضوا سنوات طويلة في المهنة وراكموا خبرات لم تعد تجدي في الإعلام الجديد. ولم يصمد محلياً بوجه هذه الموجة سوى بضع صحف ومحطات نادرة لا تزال تكافح في ميدان لا ينتج سوى المتاعب.
أكثر ما يؤلم أمام رحيل الزميل أحمد بري، بعد حزن الوداع، أن الجيل الجديد من أبنائنا لا يعرف شيئاً عن الحقبة التي كان الزميل أحمد من روادها، ولا يعرف ما تكبده ذلك الجيل، ولا يزال البعض منه يكابد، من أجل رفع شأن الجالية والدفاع عن قضاياها الحياتية والمعيشية والوطنية والقومية. دخل كثيرون من ذلك الجيل دفتر النسيان قبل أن يبدأ الموت بطي صفحات حياتهم التي ينبغي أن تكون موضع احتفاء وتكريم. لكن أين لنا ذلك ونحن نشهد أسوأ مراحل الالتحاق العربي الأميركي بما يجري من مثالب وفظائع سياسية ومذهبية في الوطن الأم، وكأنه كتب علينا الشقاء في الحياة والفناء في الرحيل.
للزميل أحمد الهادئ الرصين دمعة من القلب، على زمالة سنوات من العطاء، ولأسرته وزملائه ومحبيه تعزية صادقة، ولمن بقي من الزملاء القابضين على المهنة كالقابض على الجمر، تحية صادقة.
Leave a Reply