سرعان ما تشوبه الحواجز الدينية والعرقية والوطنية..
لماذا نخاف من بعضنا البعض ونحصن أنفسنا بسلاح التنميط الهدام ضد الجماعات الأخرى ونمجد إنتماءاتنا الخاصة على حساب الآخرين؟ لماذا عندما نتكلم عن من هم من دين آخر أو طائفة أخرى أو بلد آخر أو منطقة أخرى نستعمل لغة تنميطية ساخرة تحمل صورا مهينة ومستخفة بهم؟ ربما يبدو الموضوع مبالغاً فيه الا أن العصبية تظهر على حقيقتها عندما يواجه الناس مواقف حساسة كالزواج المختلط، الذي لايزال يطرح إشكاليات وتباينات داخل الثنائي الزوجي والعائلة والمجتمع والوطن. وتختلف ردود الفعل حول الزواج المختلط، فمنهم من يعتبر أن الصعوبات جمّة وأن التباين في العادات والتقاليد والثقافة كبير بحيث يجب الإبتعاد عن هذه الزيجات وكذلك إرشاد الأزواج الى تجنبها بهدف تفادي الوقوع في الطلاق أو تهديد حياة الاولاد بالتشتت والضياع.
“يلّي بياخد من غير ملته بيموت من علّته”
تعتبر عناية، وهي أم لخمسة شباب وفتاة ويعيشون في ديربورن هايتس، أن “الملة” في هذا المثل السائد مفادها الصعوبة والمعاناة التي يعيشها من يتزوجون من دين غير دينهم. وتقول: “لا أمانع زواج إبني من فتاة جنسيتها غير لبنانية شريطة أن تحب أهل البيت”. وتضيف: “الوضع يختلف بالنسبة لابنتي، فأتمنى لها أن تتزوج شابا لبنانيا ومن نفس طائفتها، هكذا يطمئن قلبي أنها ستبقى قريبة من أمها وعائلتها وبيئتها”. وتؤكد عناية أنها ليست متعصبة، ولكنها تتعامل مع الواقع كما هو وعليه تحدد مصلحة أولادها. كما وأن هنالك بعض المسائل الحياتية التي تتسم بالبديهية بحيث لا حاجة للنقاش فيها، تماما كالمسلمات.
أما سعاد، 45 عاماً ومتزوجة من غير طائفتها، فتروي تجربتها مع الزواج المختلط وتقول: “زواجي في البداية كان منسجماً ربما بسبب صغر سني وعدم اقترابي من المسائل الدينية. أما الآن فأعيش في أعماقي حالة من التشرذم. ووصل بي الأمر الى عدم احتمال آراء زوجي السياسية أو الدينية وذلك بسبب تناقض توجهاته مع ما أؤمن به. ولكن أحاول قدر الامكان استيعاب المسألة والتعامل معها بوعي كي لا أظلم أولادي وأشتتهم وكي لا يصل الزواج الى طريق مسدود”. وتضيف: “انه موضوع معقد جداً، فبقدر ما نحاول الإنفتاح على الآخر بقدر ما نشعر أن التعصب المتجذر فينا يعيدنا الى نقطة الصفر، ولا أستطيع تقييم الأسباب الكامنة وراء تعصبنا الأعمى”.
النخوة الجاهلية
يعبر جابر، أردني ومتزوج من فلسطينية ويعيش في ديربورن، عن رأيه ويقول: “إن مسألة التعصب بين الجاليات العربية خصوصاً والعرب عموماً والشعب الواحد بمختلف طوائفه، يعود الى ظن كل شعب أو سكان قرية أو عائلة أنهم الأفضل. فلاتزال تسود العقلية القبلية في أوساطنا الإجتماعية وتدخل في صلب نشأتنا”. ويضيف: “أظن بأن زواجي من إمرأة فلسطينية لم يكن بالمسألة الاستثنائية وذلك بسبب إختلاط وإندماج الشعبين الأردني والفلسطيني في بلد واحد. بينما لو كانت الزوجة من جنسية أخرى (لبنانية أو مصرية مثلاُ) لشكل الموضوع مشكلة حقيقة ورفض من قبل أفراد عائلتي ومحيطي الإجتماعي والمصيبة تكون أكبر طبعاً إذا كانت من طائفة أخرى”.
من ناحيته، يعتبر عمار، 29 عاما ويعيش في ديربورن، أن عواقب الزواج المختلط تقع على الفتيات بصورة خاصة. ويقول: “أرفض الزواج المختلط على أختي أو قريبتي ولكن لا مانع لأخي أو ابن عمي الزواج من طائفة أخرى أو حتى جنسية أخرى”. ويضيف: “السبب يعود الى أننا مجتمعات رجولية يتبع فيه الأولاد نسل ودين وجنسية أبائهم. فإذا تزوج رجل سوري مسيحي من فتاة سورية مسلمة أو لبنانية مسيحية، فلا مشكلة في ذلك لأن الأولاد سيحملون اسم عائلة الرجل ودينه وجنسيته، أما بالنسبة للفتاة فالأمر مختلف تماماً”. وبناءً عليه يعتقد عمار أن الزواج المختلط هو حكر على الرجال وله خطوط حمراء لا يجب تخطيها.
محاولات لإدعاء الإنفتاح!
تجد فرح، 26 عاما، عزباء وتعيش في ديربورن، أن الزواج المختلط معضلة حقيقية. وتقول: “ليس عندي مانع أن أتزوج رجلاً من دين آخر، لكنني أصر على أن يكون من بلدي لبنان وسبب ذلك يعود الى أن قانون الجنسية في لبنان مجحف بحق الأم اللبنانية فلا يمنح أولادها الجنسية اللبنانية وكذلك الأمر بالنسبة لبعض النساء العربيات التي يجري تطبيق مثل هذا القانون على أراضيها”.
وتضيف: “طبعاً أفضل أن ينتهي بي الأمر بالزواج من لبناني حيث تجمعنا الخلفية الثقافية والدينية نفسها وذلك بسب خوفي من أن يكون للزواج المختلط انعكاسات سلبية على نشأة الأولاد”.
أما نجلا، 34 عاماً، فتتحدث عن قصة حب جارفة عاشتها مع شاب مصري، يختلف بجنسيته وطائفته عنها، منذ ما يزيد عن السبع سنوات. هي فتاة متعلمة ولطالما إعتبرت عائلتها منفتحة ومتقبلة للآخر الا أن الحال تغير عندما قررت أن تصارح والدها بعلاقتها، والمقبلة على ارتباط رسمي، وهنا كانت المفاجأة.
تقول نجلا: “لقد صعقت برد فعل أبي وهو يهددني بالإختيار بينه وبين الشاب المصري. فهو وافق على رغبتي ولكن بشرط أن يتبرى مني بعد زواجي”. ولم تخف نجلا من نقاش سبب الرفض مع والدها ولكنه “اتضح أنه يستحيل على أحد أن يكون منفتحا حقا، انما الإنفتاح الإدعائي في مجتمعاتنا هو مجرد سياسة حضارية نحاول من خلالها تجميل صورتنا أمام الآخر” حسب تعبيرها.
التزاوج بين حضارتين
من ناحيته يعتبر طاهر، 55 عاما سوري ومتزوج من جزائرية، أن موضوع الزواج المختلط حساس جداً، ويتطلب الكثير من الجرأة وتحدي الذات، ويقول: “الزواج المختلط هو تحد كبير للرجل والمرأة معاً، فهو ضمنياً يشبه التزاوج بين حضارتين مختلفتين. فالزواج من إبنة العم يعتبر أسهل من الزواج من إبنة الحي والزواج من إبنة الحي يعتبر أسهل من الزواج من إبنة المدينة.. وتبدأ الدائرة بالإتساع مع بعد المسافات وتجذر الفروقات وبالتالي إختلاف العادات والتقاليد والقيم”.
ويضيف طاهر: “فما بالكم من الزواج من بلد آخر؟”. ويعتبر طاهر أن تجربته مع الزواج المختلط هي حتماً تجربة جميلة جداً وممتعة وتحمل في طياتها تحديات جمة، ويقول: “في البداية تواجه العلاقة المشاكل والصعوبات ولكن ريثما يتحقق الاستقرار بين الزوجين يصبح الاستقرار دائما. كما أن الأساس في نجاح كل العلاقات هو رابط الحب”.
الشعوب المختارة
لقد تعذر ذكر بعض الآراء بسبب مضامينها التي إتسمت بالعصبية الحادة. أما المضحك المبكي فكان عفوية هؤلاء الأشخاص الذين لم يشعروا بأي إحراج من تماديهم في تنميط الآخرين من الجنسيات المختلفة والأديان. أما الغاية في تناول الزواج المختلط الذي يحمل تشعبات وتشابكات كبرى، هو إظهار جزء مما يدور في خبايانا. وشئنا أم أبينا نجد أنفسنا جميعاً، الا بعض الاستثناء النادر، كجزء لا يتجزأ من التعصب السائد. وليس في طرح الموضوع محاولة للتشجيع على الإقدام من الزواج المختلط بل غايته تسليط الضوء على آليات تفكير الناس حيال ما يعايشونه من حساسيات داخلية وتناقض بين عالم الخارج والداخل.
إننا شعوب تفاضل نفسها على بعض، فاللبناني يعتبر نفسه الأفضل والسوري كذلك والمصري والليبي والمغربي والسوداني والأردني والفلسطيني.. وضمن البلد الواحد تجد أهل الجنوب يفضلون أنفسهم على أهل الشمال وأهل المدينة يفضلون أنفسهم على أهل القرية. وأما الأديان فحدث ولا حرج، فكل المؤمنين بالأديان والطوائف يعتبرون أنفسهم “شعب الله المختار” وبقية الخليقة غير أهل بهذه الدنيا. فيبدو أن المقولة الشائعة: “اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية” لا تمت الى واقع حالنا بشيء، لأن أي اختلاف صغير وتفصيلي بيننا هو بمثابة قنبلة موقوتة.
نحفر قبورنا بأيدينا
هنالك أسباب خلف تمسكنا بعقائدنا وعاداتنا وتقاليدنا، والمسألة يعود جزء منها الى كوننا ننتمي الى مجتمعات جماعية وليست كمعظم الدول الغربية التي تصنف كمجتمعات فردية. فنحن العرب بأغلبنا نتمسك بالأرض والمكان والدين والعائلة والقرية والحدود الجغرافية. ولا يقتصر التعصب على الدين، فقد يصل الى حد التعصب المناطقي. فيفضل الزواج من المحيط الجغرافي الذي تربى فيه الرجل-المرأة، فمثلاً قد يرفض أهل النبطية في جنوب لبنان زواج بناتهن من رجل من بعلبك شمال لبنان وكذلك الأمر في العديد من الدول العربية. وفي كثير من الأحيان نتعامل مع القضية برمي الاتهامات واسقاط التنميطات المجحفة على بعضنا البعض وبدون وعي مسبق. وتظهر هذه الاسقاطات عن طريق أساليب عدة وتدخل فيها النكتة أو استخدام كلمات تعصبية ظالمة ومهينة. هذه التنميطات عادة نسقطها على الآخرين في غيابهم وفي حضور من نعرفهم جيدا من العائلة والاصحاب والمحيط. بينما خارج هذه الحدود نظهر في المجتمع على أننا أشخاص منفتحون ومسالمون ومتقبلون للجميع بينما ضمنيا تشتعل الغريزة الأقوى عند الانسان فيما يتعلق بحب البقاء وشعار الأفضلية. وعندما يواجه هذا الانفتاح الكذاب مواقف مفصلية كالزواج، عندها تتكشر أنياب العصبية والنمطية والأحكام المسبقة وتسقط مقولة “الانفتاح على الآخر”. وللملاحظة كل هذه المشاعر ترجع في أساسها الى اللاوعي. ولا ريب أن هنالك الاستثناءات التي بطبيعة الحال عاشت ظروفا استثنائية في محاولة تحقيقها للزواج المختلط على أرض الواقع.
يقول البعض أننا شعوب منافقة إجتماعيا، نرتدي أقنعة نخفي فيها وجهنا الحقيقي، لذلك لا تجد بيننا كجاليات عربية وحدة متكاملة ولذلك نجد في دولنا العربية من المحيط الى الخليج عقود من الخيانات والمناكفات والتدخلات وحفر القبور. ولذلك نجد في البلد الواحد طوائف وأدياناً متناحرة في محاولة لإبادة بعضها وتحت شعار “التعايش وتقبل الآخر”.
فأزمات الزواج المختلط ليس إلا إثباتاً حقيقياً لعمق تجذر التعصب والنمطية والقبلية بين الناس، وكما يقول المثل “عند الامتحان يكرم المرء أو يهان” ولكن في مثل هذه الحالات الإهانة واقعة لا محال. ويبدو أن الإنسان مهما تطور لا يمكنه التخلص من غريزة القطيع، فلانزال اليوم نعيش في زمن القبليات والانغلاق على أنفسنا وطوائفنا.
نعيش اليوم في زمن ألغيت فيه كل الحدود وتحول العالم الى قرية، كما يقولون، لكننا في المقابل بنينا جدرانا من العقد والتراكمات الاضطهادية، تفصلنا عن أخينا الإنسان بعناوين مختلفة.
Leave a Reply