نبيل هيثم – «صدى الوطن»
حدثان داخليان، أحدهما أميركي والآخر روسي، من شأنهما تغيير المعادلات القائمة في سوريا.
الحدث الداخلي الأميركي يتمثل في اقتراب موعد الانتخابات الأميركية، التي تشهد أعتى الحملات المتبادلة بين الديمقراطيين (هيلاري كلينتون) والجمهوريين (دونالد ترامب)، بما يستدعيه ذلك من استخدام كل الأسلحة، في المرحلة النهائية للسباق نحو البيت الأبيض.
وأما الحدث الروسي الداخلي، فهو استحقاق اقتصادي بامتياز، ويتعلق بالميزانية الجديدة للاتحاد الروسي، وهو أمر يرسم، في دولة اقتصادية كبرى مثل روسيا، سياسات الداخل والخارج.
في الحالتين، تبدو هناك رغبة، سواء من جانب باراك أوباما، أو من جانب فلاديمير بوتين، في تحقيق إنجاز ما كبير في ميدان الحرب السورية.
في ما يتعلق بالرئيس الأميركي يبدو ان الرغبة واضحة في تقديم ما من شأنه أن يدعم حليفته هيلاري كلينتون، أمام القذائف الكلامية ذات العيار الثقيل من قبل منافسها دونالد ترامب، والتي وصلت الى حد تحميل أوباما وكلينتون مسؤولية ظهور «داعش».
وأما في ما يتعلق بالرئيس الروسي، فثمة رغبة أكيدة لديه، من دون شك، بتحقيق إنجاز آخر في سوريا، قبل نهاية تشرين الأول المقبل، وذلك لأسباب مرتبطة، كما سلف، بالميزانية الجديدة للاتحاد الروسي، بحيث يستطيع من خلاله أن يوفر الطمأنينة للقطاعات الاقتصادية بأن الانخراط الروسي العسكري في سوريا (مع ما يعنيه من تكلفة اقتصادية كبيرة) هو مجرّد مسألة وقت.
اتفاق معلّق
إذاً، ثمة تقاطع في الأهداف بين الولايات المتحدة وروسيا، إزاء ضرورة تغيير الستاتيكو القائم في سوريا منذ فترة، وإن اختلفت الأجندات. ولا يخفى على أحد أن الولايات المتحدة لا تبدو اطلاقاً راغبة بإنهاء الصراع في سوريا، وهو ما يجعل إدارة باراك أوباما راغبة في تحقيق انجاز موضعي يتمثل في توجيه ضربة كبرى لتنظيم «داعش»، يمكن استثمارها انتخابياً.
وأما روسيا، في المقابل، فأهدافها أكثر عمقاً، وهي تتمثل في تأمين توافق دولي عملي على ضرب الإرهاب التكفيري، أياً كانت مسمّياته، والمدخل الأساس لذلك يكمن في تحقيق حل سياسي للصراع السوري، أو على الأقل وضع الحجر الأساس لعملية سياسية تحقق هذا الحل.
هذه الاختلافات في الأهداف تجعل الاتفاق الأميركي –الروسي حول سوريا معلقاً، بالرغم من أن مسودته أنجزت خلال الاجتماع الأخير بين جون كيري وسيرغي لافروف، ذلك أن اقرار هذا الاتفاق يتطلب تحقيق امرين: الأول تقني، ويتمثل في مناقشة التفاصيل التقنية من قبل الخبراء الروس؛ والثاني سياسي، ويتطلب موافقة السلطات العليا في روسيا والولايات المتحدة على الاتفاق، انطلاقاً من تأثيره على الأجندات الداخلية.
مسودة الاتفاق الروسي-الأميركي تطلبت لقاءً استغرق أكثر من عشر ساعات بين سيرغي لافروف وجون كيري، وهي تتضمن شقين: الأول عسكري، وهو تثبيت وقف إطلاق النار بشكل ملزم للجميع، وحشد القوى، بشكل منسق، لمحاربة تنظيمي «داعش» و«جبهة النصرة» (بعد اقتناع الولايات المتحدة مضطرة بأن الثانية لا تقل خطورة عن الأول). والثاني سياسي، وتبقى إمكانية الشروع في تنفيذه رهناً بتحقيق الجانب العسكري، وقاعدته وحدانية الحل السياسي في سوريا، على أساس قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 (2015)، الذي تحدّث عن جسم سياسي لإدارة «المرحلة الانتقالية».
وكالة «إنترفاكس» الروسية ذكرت أن مسودة الاتفاق تتضمن فترة زمنية محددة بالخامس عشر من أيلول لتسليم مقاتلي حلب أسلحتهم، على أن تلي ذلك ضربات جوية منسّقة بين الولايات المتحدة وروسيا لمواقع المجموعات الإرهابية. وبالرغم من نفي الأميركيين هذا الأمر، فإن ما يخرج من موسكو يؤكد حرفياً.
أطراف متعددة
وبانتظار ما سيؤول اليه مصير الاتفاق المعلّق، فإن كل طرف من الأطراف المعنية قد شرع بالفعل في تثبيت توازنات ميدانية ضرورية لتنفيذ الاتفاق حال اقراره من قبل السلطات العليا في واشنطن وموسكو.
ولا يقتصر الحديث هنا عن الولايات المتحدة وروسيا وحدهما، بل يشمل كل القوى المتصارعة على الأرض السورية، بما في ذلك الجيش السوري، والإيرانيون، و«حزب الله»، وتركيا، والسعودية، والأكراد.
تلك التوازنات الميدانية السورية، تجرى على كامل الأرض السورية، ولكنها تتكثف بشكل خاص في الشمال السوري، مربط الفرس في النزاع السوري والأجندات الاقليمية والدولية.
وفي ما يتعلق بالولايات المتحدة، يبدو أن الهدف الأساسي للرئيس باراك أوباما هو تحقيق انتصار موضعي على «داعش» في الرقة، العاصمة الثانية للخلافة المزعومة، وهو أمر سيكون مفيداً للغاية في دعم المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون في وقت حساس جداً من الحملة الانتخابية، مع الإبقاء على الهدف الاستراتيجي، المتمثل في إطالة أمد الصراع السوري، الى أن يحقق غاياته الكبرى.
غموض الدور التركي
وانطلاقاً من ذلك، يمكن فهم التحركات التركية الأخيرة في سوريا، لا سيما عملية «درع الفرات»، التي يبدو الهدف منها فرض «منطقة آمنة» في جرابلس ومحيطها، وقد نشرت خريطتها صحيفة «يني شفق» القريبة من «حزب العدالة والتنمية»، وهي تمتد من جرابلس عند الضفة الغربية لنهر الفرات شرقاً إلى مدينة أعزاز غرباً، على مقربة من عفرين، المعقل الأكبر للأكراد في شمال غربي سوريا.
الهدف التركي في الظاهر هو تغيير قواعد اللعبة في الشمال السوري من جهة –وقد عبرت عنه رسائل غير مباشرة من قبل الرئيس رجب طيب اردوغان من بينها طلبه من جمعيات أهلية تقديم أضاحي العيد في جرابلس وجبل التركمان وحلب– ولجم الاندفاعة الكردية بعد تحرير منبج من قبل قوات سوريا الديموقراطية من جهة ثانية، ومنع الأكراد بالتالي من فرض أمر واقع في الشمال السوري، يعزز طموحاتهم الفدرالية.
ولكن الهدف الحقيقي، والواقعي من التدخل التركي يتمثل عملياً في ترتيب مناطق النفوذ الأميركي في الشمال السوري، بين انتشار تركي على الحدود انطلاقاً من الضفة الغربية لنهر الفرات، يوازيه انتشار كردي ابتداءً من الضفة الشرقية للفرات، بالاضافة الى تقديم تركيا أوراق اعتمادها ميدانياً للأميركيين والروس على حد سواء، وهو ما تؤكده الكثير من المعطيات، أبرزها طمأنة الروس إلى ان تدخلها العسكري في سوريا قد يكون مسهلاً للاتفاق الأميركي –الروسي، وطمأنة الأميركيين إلى انها ستكون نصيرهم في معركة الرقة.
ويبدو أن تركيا قد رحبت بعرض أميركي للتعاون المشترك حول الرقة، وفق ما ذكر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أثناء عودته من قمة مجموعة العشرين في مدينة هانغزو الصينية، حين أكد استعداد بلاده للتعاون العسكري في تلك المعركة.
ولم تكن مصادفة إعلان وزارة الدفاع الأميركية، مع بداية الهجوم التركي على جرابلس، في ريف حلب الشمالي، عن اقتراب المعركة الكبرى ضد «داعش» في الرقة، حينما طلبت من القوات الكردية، الانسحاب من غرب الفرات، والاستعداد لمهاجمة المدينة، لا بل أن ثمة من يعتقد بأن التدخل التركي في جرابلس لم يكن ليتم لولا ضوء أخضر أميركي، ليتم استخدامه بالتالي ورقة ضغط على الأكراد بعدما ابدوا عدم حماستهم بالانخراط في معركة الرقة.
وإذا كان ثمة توافقاً أميركياً–روسياً على تفويض الولايات المتحدة مهمة ضرب «داعش» في الرقة، في مقابل تغيير الواقع الميداني من قبل روسيا في حلب، قبل تثبيت الهدنة، والشروع في حل سياسي، فإن العامل التركي يمكن أن يكون، في هذا السياق، مشجعاً للاتفاق الأميركي-الروسي المرتقب، خصوصاً أن الحديث عن «منطقة آمنة» في الشمال السوري باتت موجهة عملياً ضد «داعش» و«النصرة»، وليس ضد الجيش السوري، كما كان الوضع قبل عامين.
وبهذا المعنى أيضاً تكون تركيا قد وضعت نفسها في موضع وسطي بين الأميركيين والروس. ولا شك أن المصالحة التركية–الروسية من جهة، والتسريبات الأخيرة حول استدارة تركية تجاه سوريا، يعني من الناحية العملية أن اردوغان بات راغباً اليوم أكثر من أي وقت مضى في تنويع تحالفاته في سوريا، على خط أنقرة–واشنطن، وخط أنقرة–موسكو، على حد سواء.
ماذا عن السعودية؟
وعلى خط مواز، يبدو أن السعودية قد باتت بدورها اقل قدرة على تعطيل الحل في سوريا، بعد سلسلة ضربات تكبدتها في الميدان السوري، وهو ما دفع، ربما، وزير خارجيتها عادل الجبير الى اطلاق تصريحات غريبة عن الخطاب الرسمي السعودي المعادي لدمشق، ومنها تأكيده على إمكانية التوصل الى وقف سريع لاطلاق النار في سوريا، لا بل قوله إنه لا يستطيع وصف الاتفاق الروسي–الأميركي بالفاشل.
وعلى الضفة المقابلة، فإن القوى المناهضة للمشروع الأميركي في سوريا تتخذ بدورها تموضعات ميدانية من شأنها أن تدعم موقف روسيا في الاتفاق الروسي–الأميركي. أبرز تلك التموضعات، نجاح الجيش السوري وحلفائه مجدداً في إعادة فرض طوق حلب، بعد الاختراقات الأخيرة التي حققتها المجموعات المسلحة في جنوب غربي المدينة، لا سيما عند محور الكليات الحربية.
في المحصلة، يتضح جلياً ان ثمة حشداً يتحضر أميركياً لفتح معركة الرقة ضد «داعش»، يوازيه حشد آخر يتحضر لفرض وقائع ميدانية جديدة في حلب من قبل المحور الروسي-السوري-الإيراني الداعم للجيش السوري.
ولعل هذا الأمر يحمل رسالة واضحة من قبل المعسكرين، فالوقائع على الأرض تعني أن ثمة ترتيبات قد تسهل الاتفاق الروسي-الأميركي المعلّق على شيطان التفاصيل، بحيث يمكن الاستفادة مما يتحقق على الأرض لتثبيت الهدنة السورية مجدداً والشروع في الحل السياسي. وفي حال تعذر ذلك، فإن الأطراف كافة تعود الى معادلة الرقة مقابل حلب.
Leave a Reply