فيما يخص مسألة الرفق بالحيوان، يبدو للوهلة الأولى ذلك التناقض بين الحضارتين والعالمين العربي والغربي، لناحيتي القيم والسلوك وتشريع القوانين. ففي الوقت الذي تزخر فيه الثقافة العربية، ببعديها الاجتماعي والديني، بالكثير من القيم النظرية التي تحض على الرفق بالحيوان (والبيئة كذلك) تسير السلوكيات العامة باتجاه آخر..
في الغرب، بدأ الاهتمام بتشريع القوانين التي تهدف إلى حماية الحيوانات منذ النصف الأول من القرن السابع عشر (1635)، وفي الولايات المتحدة ثمة مسيرة قانونية طويلة وشاقة، انتهت بتطبيق الكثير من القوانين بهدف الحفاظ على الحياة البرية والرفق بالحيوانات والاعتراف بحقوقها. وقد أثار هذا الأمر سخرية الكثيرين من الأميركيين أنفسهم في البداية، بدعوى أنه من الواجب أولا حماية حقوق البشر. وكان الرد أنه باستطاعة البشر تحصيل حقوقهم بأنفسهم، أما الحيوانات فلا..
وما يثير حفيظة الكثيرين (منا، على الأخص) تلك الطريقة المفرطة التي اعتادها الغربيون في معاملة الحيوانات والرفق بها، على أساس أن الحضارة الغربية هي حضارة عنف بالدرجة الأولى، وتاريخ العالم الغربي مليء بالحروب والمجازر ضد الكثير من شعوب العالم..
وكلما رأيت السناجب والعصافير والإوز والغزلان وغيرها من الطيور والحيوانات التي تعيش بسلام بالقرب من البشر دون أي شعور بالخطر، أتذكر ذلك الطير “الأليف” في الوطن الأم.. إذ يمكن لأي عابر سبيل، في أحياء دمشق، أن يلاحظ إلى ذلك الطير الرمادي الصغير الذي يشبه الحمام، والذي يدعوه الدمشقيون: الستيتية.
ويمكن الانتباه إلى تلك العلاقة المحببة والتلقائية التي تربط بين ذلك الطائر والشاميين.. إلى الحد الذي تبدو فيه طيور الستيتية في متناول اليد لدرجة القبض عليها، لكن أحداً لن يفعل ذلك!..
تلتقط طيور الستيتية أرزاقها من أيدي السكان المحليين، وتبني أعشاشها تحت سقوف شرفاتهم، أو على النتؤءات الحجرية في جدران بيوتهم، أو في الكوى، من دون أن يعتريها الخوف على بيوضها، وفراخها فيما بعد.. التي سيكون عليها، بعد قليل، أن تتمرن على الحياة قريباً من البشر من دون حرص زائد، فكميات الخوف عندها في أدنى مستوياتها!!..
والمنطق لم يستطع تفسير هذه العلاقة الغامضة بين هذه الطيور والدمشقيين، وهنا تقدمت الأسطورة لحل اللغز..
تقول الأسطورة: “إن طيوراً برية كانت تشق السماء، وترحل من الشمال إلى الجنوب، ويُقال إن أصلها كان طائر العنقاء، قاهر الصحارى والبحار. مرّ ذات يوم فوق دمشق، فاستهوته عشتار (ربة الجمال)، وقالت له بصوت سحابي أبيض: تعال، ها هنا لدي الطعام والماء والأمان والعابدون والسلام. تردد قليلاً، ولكنها لوّحت له بإزار أبيض يخفي تحته شهوة حياة الكون كلها، فحطّ مدفوعاً بقوة لم يستطع لها دفعاً. حطّ.. لا عن رغبة بالبقاء، ولا بالعيش في كنف معابد الربة الجميلة. حطّ مستطلعاً فقط.. وليرتاح من تعب، ولكنه حين حطّ، وحين حطّ فقط، وشرب من ماء بحرة الربة وأكل بعد جوع طعامَ الربة المنثور في جنبات معابدها سقط ريشه القوي، ولانت روحه الشديدة، ونسي الأسفار والصحارى والغابات والأنهار، والتجأ مستسلماً إلى حمى الربة. وتكاثر العنقاء وتوالد، وماتت الربة، ولكنه بقي. واندثرت معابدها، ولكنه بقي. وقامت معابد لأربابٍ جدد، فاحتمى بأكنافها، وتغيرت أسماء الأرباب، وتغيرت أسماء العابدين، وتغيرت أسماء المعابد، ولكن أحداً لم ينسَ أبداً.. اسمه القديم مدلل الست عشتار: الستيتية”!..
Leave a Reply