بيروت – علي شهاب
دخل لبنان رسميا مرحلة ما بعد القرار الظني منذ إعلان جميع الأفرقاء فشل المساعي السعودية-السورية وفصل أمين عام “حزب الله” السيد حسن نصر لله الأزمة الى مسارين ما بين محكمة وحكومة، في موقف فسرّته سريعا عملية الانتشار الامنية الواسعة التي نفذها عناصر من الحزب فجرا عند نقاط جغرافية رئيسية تشكل العصب الحيوي للعاصمة، في رسالة ميدانية تردد كثيرا في الأوساط الصحفية والسياسية أنه سيتبعها خطوات تصعيدية اخرى من شأنها فرض المزيد من الضغوط على قوى الرابع عشر من آذار.
ولعلّ أبرز مشهد سياسي يختصر حجم الأزمة وتعقيدها كان الحراك الذي قام به وزيرا الخارجية القطري والتركي أخيرا، قبل أن يغادرا لبنان يحملان خيبة أمل واضحة من احتمال حصول اختراق في جليد المواقف المتصلبة، علما أنهما طوال مساعيهما عملا دون سقف بنود التسوية السعودية-السورية، ومع ذلك لم يفلحا في تقريب وجهات النظر لدى مختلف الأطراف، فأعلنا عن توقف مساعيها “بسبب بعض التحفظات”. وعلمت “صدى الوطن” من مصادر مقربة من الوزير التركي أن “محاولاته الحثيثة والصادقة في لبنان قد أرهقته”.
في هذا الوقت، تقاطع حديث كل من رئيس المجلس النيابي نبيه بري ووزير الخارجية السعودي سعود الفيصل في نعي الحل، وإن اختلفا في تفسير خلفيات وأسباب فشله؛ إذ عزا بري الفشل الى “خطأ سعد الحريري في عدم الاعلان عن التزامه ببنود التسوية السورية-السعودية، وأبرز عناوينها ثلاثة هي: سحب بروتوكول المحكمة، ووقف تمويلها، وسحب القضاة اللبنانيين”، قبل أن يعلن (بري) دخول البلد “مرحلة ما بعد القرار الاتهامي”.
أما الوزير السعودي الفيصل فكان لصدى موقفه ارتدادات سلبية في الشارع تحديدا، بتحذيره من التقسيم والقول إن بلاده “رفعت يدها” عن لبنان، في اعلان بدا اعترافا غير مباشر بخسارة الرياض لأخر ساحات التفاوض لديها في المنطقة، بالتوازي مع التقارير المتلاحقة عن الخلافات داخل الاسرة المالكة.
موقف الفيصل وضعته مصادر في المعارضة ضمن سياق الشعور السعودي بأنها “لم تعد تمسك بزمام الامور”، وبالتالي فهي تلجأ الى “رفع سقف الخطاب السياسي والإعلامي” بهدف الضغط على المعارضة، فضلا عن أن الموقف السعودي يتقاطع الى حد بعيد مع الرغبة الأميركية الضاغطة.
ولم تخفِ مصادر مطلعة في المعارضة، في حديثها لـ”صدى الوطن”، خشيتها من دخول البلاد مرحلة “توتر شديد تُستخدم فيه مختلف الأساليب السياسية والامنية والإعلامية”، ذلك أن الرياض وواشنطن “تُريدان فرض ثمنٍ اقليمي كبير” مقابل الملف اللبناني.
وتتابع المصادر نفسها، أنه في مقابل هذه الهجمة، “فقد باتت الامور مفتوحة على جميع السيناريوهات” حتى وإن اضطرت المعارضة الى تشكيل حكومة من لون واحد، مع الإشارة الى استبعاد حصول الاستشارات النيابية المؤجلة أصلا في القريب العاجل. وبالفعل تردد في الساعات الأخيرة أنباء عن نية قوى الثامن من آذار القيام بتحرك كبير لم تُعرف ملامحه، في حين أبدت مصادر مقربة من الحريري خشيتها من قيام “حزب الله” بـ”تحرك ميداني”.
وسرعان ما حسم الرئيس عمر كرامي الشكوك بشأن نوايا المعارضة ازاء مرشحها لرئاسة الحكومة، فاعتبر أن عائلته “لطالما تحملت مسؤولياتها في ظل الظروف الصعبة والازمات التي تحل بالبلاد”.
هذه الاجواء قابلها سعد الحريري بإعلان تمسكه بحقه في الترشح لرئاسة الحكومة، من دون ان يضمن اغلبية الأصوات، بعد أن مالت كفة رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الى المعارضة مجددا، عقب رسائل سياسية تبادلتها معه دمشق وحارة حريك على اثر مواقفه الأخيرة غير المنسجمة تماما مع شروطهما، ما اضُطره الى ايفاد الوزير غازي العريضي بشكل عاجل الى الرئيس الأسد، قبل أن ينطلق الحديث في أوساط “تيار المستقبل” بأن جنبلاط قد صار تماما في الضفة الاخرى، وأنه سيعطي اصوات “من يمون عليهم” في كتلته النيابية لصالح مرشح المعارضة لرئاسة الحكومة، تماما كما هو حال النائب نقولا فتوش الذي لم تُفلح، على ما يبدو، السفيرة الأميركية في بيروت في اقناعه بالتصويت لصالح الحريري.
وكانت السفيرة الأميركية قد فاجأت جميع المراقبين بعد ان توجهت الى مدينة زحلة للقاء فتوش، ما استتبع موقفا نوعيا من وزارة الخارجية اللبنانية، للمرة الأولى في تاريخها، حيث قام الوزير باستدعاء السفيرة لسؤالها عن أسباب زيارتها نائبا لبنانيا، والإشارة الى أن خطوتها هذه تُعدّ تدخلها في شؤون لبنان.
وبالعودة الى التموضع الجنبلاطي الجديد، تجدر الإشارة الى أن أولى ارهاصات التبدل في موقف رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وتحوله من موقف وسطي يُتيح له احياء المبادرة السعودية-السورية الى التزام كامل الى جانب المعارضة في استحقاق الاستشارات النيابية، بدأت مع تعليقه على كلام وزير الخارجية السعودي الأخير، فاعتبر أن موقف سعود الفيصل “غير دقيق ولا يتناسب مع المسار التاريخي المشترك، السوري-السعودي، في التعاطي مع المحطات المركزية للصراع في لبنان”.
بدوره، علّق رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون على كلام الفيصل بالقول إن “من لديه جيش يمكنه فرض التقسيم فليرسله”، مؤكداً أن “لبنان أصغر من أن يقسم وأكبر من أن يبلع، وهذا الشعار عمره 32 سنة”. وشدد عون على أن “لبنان لن يقسم إن شاءت إسرائيل أو لم تشأ وإن شاءت أميركا أو لم تشأ”.
وثائق المحكمة في سوق الإعلام
برز تطور لافت في بيروت هذا الأسبوع على اثر قيام قناة “الجديد” بعرض فقرات من تسجيلات للتحقيق الدولي في اغتيال الرئيس الحريري، استهلتها ببث جلسة بين رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري والعقيد وسام الحسن مع شاهد الزور محمد زهير الصدّيق والمحقق الألماني غيرهارد ليمان. ويعلن الصدّيق في التسجيل الصوتي أن القرار الاتهامي سيشير الى مسؤولية 4 لبنانيين و9 سوريين، كما يتحدث عن اتصاله بالحريري أكثر من مرة لإبلاغه بعبوة تتجه للتفجير في القناة اللبنانية “أل بي سي” قبل يوم من محاولة اغتيال الإعلامية مي شدياق، لكن الحريري لم يرد على اتصال الصديق.
ثم قال له الحريري “عادة تبعث لي برسالة نصية إذا أردت إبلاغي بشيء ما” ما يدل بوضوح الى وجود تواصل مستمر بين الحريري والصديق.
ولئن طغت نبرة الصدّيق المرتفعة في الجلسة على صوت الحريري، وبغض النظر عن الجدل الدائر حول المقاطع المحذوفة من التسجيل، فإن نفس وصول اجزاء سرية من تحقيق دولي الى أيدي الإعلام يطرح أسئلة كبيرة حول مهنية التحقيق.
وواصلت قناة “الجديد” بث ما حصلت عليه من وثائق فعادت وعرضت مقطعا اخر للحريري يسيء فيه الى العديد من الشخصيات السياسية والإعلامية العربية واللبنانية، وهو ما استدعى لاحقا اصدار مكتبه جملة ردود وقيامه بعدد من الإتصالات مع الشخصيات التي ذكرها في التسجيل ليوضح موقفه.
ولن يكون الاحراج مصدر قلق الحريري الوحيد، إذ ان التسجيلات تلمح بشكل كبير الى دوره في صناعة شهود الزور، بل إن وسام الحسن في التقرير الأول يلقن الصدّيق افادته.
وفي أخر تقاريرها، بثت القناة نفسها الخميس الماضي جلسة تحقيق مع وزير الدفاع في حكومة تصريف الاعمال الياس المر يتحدث فيها عن اختيار رئيس الجمهورية ميشال سليمان قائدا للجيش، بالقول إن “الاختيار وقع عليه لانه كان اضعف ضابط في الجيش”.
وفيما يتعلق برئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، اكد المر امام المحقق ان الاخير كان يملك سيطرة كاملة على تلفزيون “المستقبل” وصحيفة “المستقبل”، كما كان يدفع الأموال لصحيفة “الديار”، ولصاحبها شارل ايوب “لأنه رجل رخيص ولا يتمتع بأي شرف لأنه كان يقبض المال من رفيق الحريري”.
وأضاف المر أن الحريري كان يسيطر أيضا على صحيفة “الشرق” التي يملكها عوني الكعكي، وصحيفة “اللواء”، كما كان يملك 30 او 35 بالمئة من الاسهم في صحيفة “النهار”.
وبالنسبة للمؤسسة اللبنانية للارسال، اشار المر الى ان “بيار الضاهر وأنطوان الشويري كانا المسؤولان عن الاعلانات وفريق معين مناهضين للحريري في المحطة، في حين إن الاعلاميان مارسيل وجوج غانم كانا مع الحريري كونهما صديقاه، وبالتالي اذا ما اخذت وسائل الاعلام في تلك الفترة، ستجد أن الحريري كان يسيطر على 80 بالمئة منها، وكانت تهاجم (الرئيس السابق) اميل لحود على أوسع نطاق”.
بأي حال، لن يكون حدث تسريب وثائق سرية في قضية مصيرية يتعلق عليها مستقبل بلد كلبنان محط تغيير جذري في الشارع اللبناني، الذي بات رهينة انقسام حاد بين معسكرين يرفضان التعايش معا، بعد أن فعلت التدخلات الخارجية فعلها في تأزيم الوضع. ويبدو واضحا هذه المرة، أن معادلة “لا غالب ولا مغلوب” التي لطالما سرت في مختلف المحطات التاريخية في لبنان لن تكون صالحة هذه المرة، ولن ينفرج المشهد النهائي الا عن صورة جديدة قد تكون مختلفة تماما عما اعتاده اللبنانيون.
Leave a Reply