مع أن الحملة الانتخابية للمرشح الجمهوري دونالد ترامب اتسمت في جزء كبير منها بالعدائية الفاقعة للإسلام- أو على الأقل الإسلام الراديكالي بحسب توصيفه- فإن الرئيس الأميركي لم يجد حرجاً في جعل السعودية أولى محطاته الخارجية له منذ توليه منصبه في كانون الثاني (يناير) الماضي، رغم أن الجميع بات يعلم أن المملكة هي البيئة الحاضنة للفكر الوهابي التكفيري الذي شوه الإسلام وعاث في الأرض من مشارقها إلى مغاربها رعباً وإرهاباً.
لم يكن على ترامب أن يشعر بأي نوع من الحرج وقد فرشت له السعودية الأرض سجاداً أحمر وشيكات بمليارات الدولارات، فنسي في «خطابه التطبيعي» مع الإسلام أن يذكر «الإسلام الراديكالي» ولو لمرة واحدة، بعد أن عاب على كلينتون وأوباما طويلاً تجاهلهما لهذا المصطلح خلال حملته الانتخابية.
ولا شك أن ترامب يعلم علم اليقين، أن الإسلام الراديكالي المتطرف هو سعودي الجذور والمنبت، ولكن العقود والصفقات التي كانت بانتظاره في الرياض، أسالت لعاب الرئيس المترنّح، عله يعود إلى واشنطن بإنجاز يساعده على تثبيت أقدامه في الرئاسة، بمساعدة الشركات الأميركية العملاقة، ولاسيما شركات السلاح.
فقد اتفقت واشنطن والرياض على عقد صفقة أسلحة بقيمة 110 مليارات من الدولارات، إلى جانب صفقات أخرى بقيمة إجمالية وصلت إلى ٣٨٠ مليار دولار، وهو مبلغ هائل، كفيل بمكافحة الفقر في المنطقة العربية برمتها، ولكن آل سعود فضلوا دفع هذا المبلغ للأميركيين مقابل حماية عروشهم ومحاولة جرّ واشنطن إلى حرب جديدة في المنطقة.. ضد إيران هذه المرة.
الصفقات قلبت مبادئ وشعارات ترامب «رأساً على عقب»، وبدّلت مزاجه المتذبذب أساساً، لدرجة يبدو واضحاً فيها أن تصريحاته المتكررة ضد السعودية خلال الحملة الانتخابية لم تكن أكثر من «ابتزاز» سياسي يضمر النية بحلب البقرة السعودية حتى آخر قطرة، وهو تفكير ترامبي صرف، ينطلق من براغماتية رجال المال والأعمال التي لا يتوانى الرئيس الأميركي عن المجاهرة بها.
في 17 شباط (فبراير 2016) قال ترامب «سوف تعرفون من أسقط مركز التجارة العالمي، هناك أوراق سرية، قد تجدون أنهم السعوديون».
وفي مقابلة تلفزيونية في 9 آذار (مارس) 2016 قال «أعتقد أن الإسلام يكرهنا، هنالك شيء ما، هنالك الكثير من الكراهية».
أما في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 فقد قال «لم أحب أنه عندما سقط مركز التجارة العالمي، الحثالة التي أوقعته أرسلت عائلاتها إلى السعودية، ونحن قمنا بمهاجمة العراق».
وفي 7 كانون الأول (ديسمبر) 2015 طالب قطب العقارات بـ«حظر شامل لدخول المسلمين إلى الولايات المتحدة»، وقد حاول جاهداً تنفيذه جزئياً من خلال أمرين رئاسيين انتهيا في القضاء الأميركي.
ولكن بعد الصفقات المغرية في الرياض،فقد تغير خطاب سيد البيت الأبيض، وقال بعد تأدية رقصة «العرضة»، الفلوكلورية السعودية، مع الملك سلمان، قال في خطابه أمام القمة الإسلامية الأميركية التي عقدت في الرياض الأحد الماضي إن «الحرب على الإهاب ليست بين أديان مختلفة ومذاهب مختلفة وحضارات مختلفة. هذه معركة بين الخير والشر، ونحن لسنا هنا لنعلم الآخرين كيف يعيشون أو ماذا يفعلون أو من يكونون أو كيف يمارسون عباداتهم، نحن هنا لنقترح شراكة قائمة على المصالح والقيم المشتركة من أجل تحقيق مستقبل لنا جميعاً».
وترامب الذي لم يفوّت فرصة لانتقاد منافسته في السباق الرئاسي لكونها «تأخذ كل تلك الأموال لمؤسستها الفاسدة» من السعودية ومن بلدان أخرى «تستعبد المرأة»، لم يجد حرجاً في أن ابنته إيفانكا حصلت لمؤسستها الخيرية على تبرعات سعودية وإماراتية بقيمة 100 مليون دولار لدعم مشاريع لـ«تمكين المرأة»، وكأن المملكة لم تعد «تستعبد» النساء، وقد منحتهن كامل الحقوق أسوة بدول العالم الأخرى.
في الواقع، إن زيارة ترامب إلى الرياض ولقاءَه بالعاهل السعودي، يعيدان إلى الأذهان اللقاء السري بين الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت والملك المؤسس عبد العزيز آل سعود على ظهر الطراد الحربي «كوينسي» عام 1945، الذي انتهى باتفاق بين الزعيمين قضى بضمان الولايات المتحدة لاستمرار حكم آل سعود في شبه الجزيرة العربية مقابل مد الولايات المتحدة بالنفط، وهو الحلف الذي قام ترامب بتجديده على طريقته، مقابل شيكات بضمانة حظوظ ولي ولي العهد محمد بن سلمان ورؤيته ٢٠٣٠. ولا بأس أن يكون من تأثيراتها الجانبية تكديس الأسلحة المتطورة في مستودعات السعودية، وكأنها مجرد خردة عالية التقنية أو أداة لحصار الشعب اليمني وقتله، وربما تجرؤ السعودية على استخدامها ضد إيران!
في وقت سابق غرّد ترامب تغريدة قال فيها «هل ترون كيف تتلاعب السعودية بزعمائنا الأغبياء.. لماذا لا يدفعون؟». وكتب في تغريدة أخرى «على السعودية أن تخوض حروبها وهو ما لن تفعله، أو أن يدفعوا لنا ثروة كي نحميهم».
أما وقد دفع السعوديون فاتورة ترامب، فيبدو أن «رجل الصفقات» قد ألزم نفسه بالدفاع عن المملكة التي تقود تحالفاً عسكرياً ضد أفقر البلدان في العالم، وتدعي قيادة صراع عربي-فارسي على خلفية طائفية عملت على تأجيجها عبر أذرعها المتعددة في العالم، فهل يغامر ترامب بمصالح أميركا مقابل مؤازرة السعودية في صراعها للبقاء ورؤية العام ٢٠٣٠؟
المفاجأة أن ترامب أقدم على التصريح الثمين والأكثر إرضاء للسعوديين من قلب إسرائيل، في لقائه مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي سمع من ترامب تعهداً «بالعمل على منع إيران من امتلاك القنبلة النووية»!
ما يحز في القلب أكثر، أن معظم أبناء الشعب السعودي قد ظهروا على هامش الزيارة وكأنهم يعيشون في واد آخر، إذ لم يعنهم إهدار تلك المليارات في صفقات مرتبة سلفاً، من أجل أغراض سياسية واضحة لا تقيم للمصالح الوطنية أدنى اعتبار، فهؤلاء تهافتوا على مواقع التواصل الاجتماعي للترحيب بترامب وابنته وزوجته، لدرجة أن أحد السعوديين طلب من ملك السعودية التقدم بخطبة إيفانكا له!
الأوساط المتدينة لم تكن أفضل حالاً، إذ طالعتنا الأخبار بقيام أحد السعوديين بأداء العمرة بالنيابة عن ترامب عسى أن يهديه الله للإسلام، لكن رد الرئيس الأميركي جاء سريعاً بزيارة حائط المبكى، المقدس لدى اليهود، في بادرة لم يسبقه إليها أي رئيس أميركي من قبل.
Leave a Reply