المملكة المهزومة في اليمن تصب جام غضبها على لبنان
كمال ذبيان – «صدى الوطن»
القرارات التي اتّخذتها السعودية، بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع لبنان، ردّاً على موقف صدر عن وزير الإعلام جورج قرداحي بشأن حرب اليمن قبل أكثر من شهر على توليه الوزارة، وضع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، في مهب الريح وهي الحكومة التي شُكلت من دون رضا الرياض.
في الواقع، ليس تعليق قرداحي سوى «القشة التي قصمت ظهر البعير»، ودفعت المملكة إلى إعلان حرب دبلوماسية وسياسية واقتصادية على لبنان، بهدف زيادة الضغوط على «حزب الله»، وهو الهدف الحقيقي من الإجراءات السعودية القاسية، وليس قرداحي، خاصة وأن سياسيين ومسؤولين كثراً في لبنان، اعتبروا –مثل قرداحي– أن الحرب في اليمن «عبثية»، ومنهم الرئيس نبيه برّي ووليد جنبلاط، ناهيك عن مراجع دولية عديدة تنظر إلى الحرب في اليمن، على أنها غير إنسانية، وتدخل في إطار «الحرب من أجل الحرب».
اختارت الرياض كلام قرداحي، لتعلن «حربها» على حكومة لبنان، بعد سنوات من الاحتقان السعودي بسبب توسع نفوذ «حزب الله»، لاسيما بعد اتفاق الدوحة في أيار 2008، الذي ثبّت مبدأ «الثلث الضامن» الذي يتيح فرط أية حكومة بمجرد استقالة ثلثها، وهو ما يضع حكومة ميقاتي المعطّلة هذه الأيام، أمام اختبار حياة أو موت، بسبب الانقسام حيال التعامل مع مطالبة السعوديين بإقالة قرداحي. لاسيما وأن «حزب الله» وحلفاءه لديهم ما يكفي من المقاعد الوزارية لإسقاط الحكومة، وهؤلاء يرفضون حتى الساعة مطلب الرياض التعسفي بإقالة وزير من حصة تيار «المردة» بزعامة النائب سليمان فرنجية، والذي اعتبر قرداحي غير مخطئ في ما قاله بشأن عبثية حرب اليمن.
وقد اعتبر فرنجية أن المسألة تحولت إلى قضية كرامة وطنية وشخصية، مشدداً على أن حرية الرأي والتعبير تتقدّم على أي شيء آخر. وأكد للبطريرك الماروني بشارة الراعي، الذي دعاه إلى بكركي للتشاور بشأن الأزمة، أن «لا استقالة لوزير الإعلام الذي لم يخطئ، ونؤيّد موقفه»، مؤكداً أن المطلوب سعودياً هو رأس الحكومة بسبب وجود «حزب الله» فيها.
الحكومة باقية؟
ورغم الموقف المتصلّب للسعودية الذي حظي بمؤازرة معظم دول «مجلس التعاون الخليجي»، لم ينجرف ميقاتي في التجاوب مع دعوات المطالبين باستقالة قرداحي، رغم أنه تمنّى على وزير الإعلام «تغليب الحس الوطني»، في وقت تضامنت فيه حركة «أمل» و«حزب الله» مع قرداحي، وإعلان فرنجية بأنه سينسحب من الحكومة.
ميقاتي المعروف عنه «تدويره للزوايا»، بدأ بسلسلة اتصالات ولقاءات، وشكّل خلية أزمة وزارية برئاسة وزير الخارجية عبدالله بو حبيب، والتي عقدت اجتماعاً يتيماً واحداً، لأن الأزمة أعمق وأكبر من استقالة وزير أبدى رأيه قبل تعيينه.
فالأزمة كما تقول الرياض سببها سيطرة «حزب الله» على القرار اللبناني، وهذا ما عبّر عنه صراحة وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، وغيره من المسؤولين الذين يزعمون أن هذه السيطرة، حصل عليها «حزب الله» بقوة السلاح في قلب الموازين الداخلية لصالحه في «7 أيار»، ثم أوصل حليفه ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية وفاز مع حلفائه بأكثرية نيابية في انتخابات عام 2018، وهو ما سمح لتمدد نفوذ إيران في المنطقة على حساب السعودية التي لطالما كانت لها اليد العليا في لبنان منذ اتفاق الطائف.
الغضب السعودي إزاء سيطرة «حزب الله» وحلفائه على السلطة في لبنان، انصب أولاً على الرئيس سعد الحريري بصفته وكيل المملكة الأول في لبنان، فتم احتجازه وإجباره على الاستقالة في الرياض خريف 2017، وصولاً إلى عزله سياسياً عقب استقالته الثانية في خريف 2019 ثم عجزه عن تشكيل حكومة جديدة بسبب «الفيتو السعودي».
كذلك، خذل جنبلاط المملكة بانكفائه عن مواجهة «حزب الله» بعد أحداث 7 أيار 2008، التي امتدت إلى الجبل، ومقرّه في المختارة. ولم يتبق للسعودية من قوى «14 آذار» التي دعمتها عقب اغتيال الحريري الأب عام 2005، سوى رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الذي أصبح بمثابة رجل المملكة الأول في لبنان، وقد سعى لتقديم نفسه على أنه قادر على مواجهة «حزب الله» فجاءت أحداث الطيونة ضمن هذا الإطار، قبل أن ينكفئ جعجع عن هذا المسار بسبب تبعات المجزرة وتأثيراتها السلبية على طموحاته الرئاسية وعلى مستقبل المسيحيين الرافضين عموماً لأي صراع أهلي.
ومع اقتراب استحقاق الانتخابات النيابية المقررة في الربيع القادم، تجد السعودية نفسها في أزمة مع حلفائها، الذين لم يكونوا على قدر المسؤولية، فأضاعوا الأكثرية النيابية، وفقدوا إلى حدّ ما نفوذهم في السلطة، أمام الرئيس عون و«الثنائي الشيعي» الذين وقفوا مع الحريري في أزمته مع المملكة.
أما حكومة ميقاتي التي ستتولى الإشراف على الانتخابات النيابية القادمة، فوُلدت بتوافق بين باريس وطهران، وهذا ما زاد من غضب المملكة بسبب قبول ميقاتي بتشكيلها دون نيل تأييد السعودية، فأقفلت الأبواب بوجهه كما أقفلت بوجه الحريري قبله، وتذرعت بتصريحات قرداحي لتنتفض على الحكومة في محاولة لخلخلتها وربما إسقاطها.
غير أن ميقاتي عاد إلى بيروت الأسبوع الماضي، بدعم دولي من فرنسا وأميركا وروسيا ودول أخرى أكدت حرصها على بقاء الحكومة لإجراء الانتخابات والقيام بإصلاحات عاجلة لإنقاذ الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي في لبنان.
وفي هذا السياق، يبدو جلياً أن السعودية غير راضية عن مساعي الإنقاذ الاقتصادي للبنان، خاصة وأنها قد تكون اللاعب الأساسي في حصاره ومحنته بعدما أغدقت عليه عشرات مليارات الدولارات منذ انتهاء الحرب الأهلية دون أن يكون لها اليوم نفوذ حقيقي فيه.
لكن رغم الدعم الغربي الواسع الذي حظي به ميقاتي على هامش «قمة المناخ» في غلاسكو، من غير المرجح أن توقف السعودية ضغوطها لإسقاط حكومته مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية التي تنتظر منها السعودية –وكذلك الأميركيون والفرنسيون– نتائج تقلب المشهد على مستوى إدارة السلطة في لبنان.
ومع عودته إلى بيروت، يعول ميقاتي على مبادرة من جانب شركائه في الحكومة باستقالة قرداحي وذلك لتخفيف التوتر مع السعودية ودول الخليج التي تدور في فلكها، لكن هذه الخطوة –حتى إعداد هذا التقرير– لم تجد من يدعمها في لبنان سوى أنصار السعودية.
من جهته، يريد الرئيس عون عودة الحكومة للاجتماع مجدداً لمناقشة الأمر ضمن استراتيجية بناء علاقات واضحة مع كل الدول العربية والصديقة. لكن رئيس الحكومة يخشى حدوث مواجهة في مجلس الوزراء قد تؤدي إلى إطاحة الحكومة، لاسيما وأن هناك كتلة وازنة في الحكومة («حزب الله» وحركة «أمل» وتيار «المردة» والنائب طلال إرسلان) لن توافق على الاستقالة قبل الحصول على ضمانات مسبقة بأنها ستفتح الباب أمام معالجة الأزمة.
وفي موقف تصعيدي، وصف نائب أمين عام «حزب الله» نعيم قاسم ما تقوم به السعودية تجاه لبنان بـ«العدوان»، مطالباً الرياض بـ«الاعتذار» ومؤكداً أن «أحداً لا يستطيع ليّ ذراع حزب الله والشعب اللبناني، ولبنان ليس مكسر عصا، ولا نقبل أن تتدخّل السعودية بالحكومة». وعزا قاسم انزعاج الرياض إلى أنها «لم تستطع الهيمنة على القرار السياسي في لبنان، رغم الأموال التي دفعتها لأتباعها في البلد». وأضاف أن السعودية «لم تعد تحتمل خسائرها في المنطقة»، لافتاً إلى أن توقيت «العدوان على لبنان له علاقة بمأرب وبالخسارة المدوّية في اليمن». وشدّد على أن «القوات اللبنانية نفّذت كمين الطيونة نيابة عن أميركا والسعودية، بهدف محاصرة حزب الله عبر محاولة إشعال الفتنة».
«حزب الله» واليمن
من الواضح أن استقالة قرداحي لن تحل الأزمة، التي هي أبعد بكثير من موقف إعلامي، فالمشكلة ترتبط بدور «حزب الله» في اليمن ودعمه للحوثيين الذين يقاتلون «التحالف العربي» بقيادة السعودية.
فبعد سبع سنوات على اندلاع الحرب، لم تحقق السعودية وحلفاؤها تقدماً عسكرياً يذكر، وهو ما دفع الرياض إلى اتهام «حزب الله» بإرسال استشاريين ومدربين عسكريين لمؤازرة الحوثيين في اليمن، مما عدّل كفة الحرب لصالحهم على حساب قوات الرئيس السابق عبد ربه منصور هادي، المدعومة من السعودية، فوصل الحوثيون إلى مشارف مأرب التي قد يمثل سقوطها نهاية لآمال الرياض بالسيطرة على الساحل اليمني المطل على البحر الأحمر.
ومع فشلها في الانتصار على الحوثيين، سعت السعودية في الآونة الأخيرة إلى حفظ ماء وجهها في اليمن عبر فتح حوار مع طهران برعاية عراقية، حيث طالبت بمنع «حزب الله» من دعم الحوثيين والتوقف عن تزويدهم بالأسلحة الإيرانية، لكن جواب طهران و«حزب الله» كان بأن القرار هو للحوثيين، والحوار يجب أن يكون معهم.
وبالعودة إلى لبنان حيث ترى السعودية نفسها خاسرة أمام حلفاء إيران أيضاً، يمكن القول إن الحرب الدبلوماسية والاقتصادية القاسية التي تشنها المملكة على لبنان، ما هي إلا خطوة على طريق الرهان السعودي على الانتخابات النيابية المقبلة، والتي تريد منها الرياض –وخلفها واشنطن– أكثرية نيابية ضد محور المقاومة، كما حصل في الانتخابات العراقية التي أسفرت عن هزيمة «الحشد الشعبي».
Leave a Reply