كمال ذبيان – «صدى الوطن»
يُسجل في تاريخ لبنان، أنه كان دائماً أرضاً لصراعات الإمبراطوريات والدول ومصالحها ونفوذها، وهذا واقع لم ينتهِ حتى بعد زوال الإستعمار الفرنسي في العام 1943، لا بل استمر التدخل الدولي، عبر قوى سياسية وحزبية داخلية، وقد شهدت أزماته وحروبه الأهلية على ذلك، فشهد أول تدخل عسكري في العام 1958 من خلال إنزال أميركي على شواطئه لحماية عهد الرئيس كميل شمعون ومواجهة «التمدد الشيوعي» بما عُرف بمشروع الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور للوقوف بوجه الرئيس جمال عبدالناصر الذي طرح الوحدة العربية.
والتدخل الخارجي الثاني، كان في العام 1976 عندما دخلت قوات سورية لوقف القتال بين اللبنانيين، والتي تمّ تشريعها عربياً ودولياً، لتنسحب في أواخر نيسان عام 2005، بعد أن رُفع التكليف الدولي عن وجودها بقرار عن مجلس الأمن الدولي حمل الرقم 1559، بتأييد أميركي – فرنسي ودعم خليجي على رأسه السعودية.
وبعد الدخول السوري عام 1976، اجتاحت إسرائيل أجزاء من الجنوب اللبناني ووصلت الى حدود نهر الليطاني، بعد أن طردت الفصائل الفلسطينية من المنطقة في آذار من العام 1978، وأقامت شريطاً حدودياً كان منطلقاً للغزو الصهيوني عام 1982، وفرضت إسرائيل حينها بشير الجميّل رئيساً للجمهورية، ثم شقيقه أمين بعد اغتياله، لفرض سلام مع لبنان، بعد إخراج منظمة التحرير الفلسطينية منه، لكن ظهور المقاومة الوطنية اللبنانية، ثم الإسلامية، غيّر من موازين القوى لصالح الخط الوطني والمقاوم، فحوصر عهد أمين الجميّل، بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من بيروت والجبل، وخروج القوات المتعددة الجنسيات، وعودة القوات السورية الى بيروت عام 1987، ثم حصول إتفاق الطائف عام 1989، الذي أوكل الى سوريا تنفيذه وإعادة السلم الأهلي، وإعادة الوحدة الى المؤسسات وحل الميليشيات، وإزالة خطوط التماس، وعودة المهجرين، واستعادة وحدة لبنان.
ما بعد السوريين
ومنذ خروج القوات السورية من لبنان في العام 2005، باتت الساحة فيه منقسمة بين مشروعين الأول أميركي – سعودي، ترفع قوى «14 آذار» رايته تحت شعار «السيادة والإستقلال»، والثاني خط المقاومة والممانعة وتقف وراءه إيران وسوريا وحلفاؤهما في لبنان في «8 آذار»، وقد جرت محاولة للتخفيف من الاحتقان الاجتماعي بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، بتحالف انتخابي رباعي ضمّ المكونات الإسلامية السياسية وهي حركة «أمل» و«حزب الله» و«تيار المستقبل»، و«الحزب التقدمي الإشتراكي»، وتشكّلت حكومة ضمت هذه الأطراف إضافة الى مسيحيي «14 آذار»، باستثناء العماد ميشال عون الذي ما لبث أن وقّع ورقة تفاهم مع «حزب الله» في 6 شباط 2006، بدّلت من الموازين الداخلية.
إلا أن الإدارة الأميركية برئاسة جورج بوش، استعجلت حلفاءها في لبنان من قوى «14 آذار» نزع سلاح «حزب الله» كما ورد في القرار 1559، بعد أن ساهمت أميركا عقب اغتيال الحريري، بإخراج القوات السورية من لبنان، لكن قوى «14 آذار» فشلت في المهمة، رغم نجاحها بتشويه صورة «حزب الله»، فغطّت أميركا العدو الإسرائيلي لشن حرب خاطفة على المقاومة صيف 2006 هدفت تدمير مخزون الأسلحة ومنصات الصواريخ، وقتل قادة المقاومة وفي مقدمتهم السيد حسن نصرالله، فسوّت الغارات الجوية الضاحية الجنوبية وبلدات وقرى في الجنوب والبقاع الى الأرض، وبعد أن استنفد الطيران الإسرائيلي «بنك أهدافه»، دون أن يتمكن من وقف إطلاق الصواريخ على الأراضي المحتلة.
ما بعد تموز
مع انتصار تموز 2006، تغيّر الميزان لصالح المقاومة، لكن جرت محاولة أخرى لإرباكها من الداخل، عبر تحريض مذهبي عليها، فحصلت إشتباكات متفرقة في مناطق عدة داخل بيروت وعلى مشارف الضاحية الجنوبية، كما في بعض مناطق البقاع الأوسط، وفي طرابلس بين جبل محسن وباب التبانة، إلى أن كان يوم 7 أيار 2008 الذي أنهى الحالة الشاذة الداخلية، وأدركت أميركا وحلفاء لها في أوروبا ودول عربية، لاسيما السعودية، بأن لبنان لن يكون من ضمن مشروع «الشرق الأوسط الجديد» الذي قدمه الرئيس بوش، لتحصل تسوية الدوحة في ذلك الشهر ويتم انتخاب العماد ميشال سليمان قائداً للجيش، وتشكيل حكومة وحدة وطنية يدخلها «التيار الوطني الحر»، وتبدأ السعودية بفتح صفحة جديدة، بالحوار مع سوريا، والذي كان الرئيس نبيه بري يدعو إليه تحت إسم الـ«سين – سين»، وأنه المدخل للاستقرار في لبنان، الذي قرّر العاهل السعودي الملك عبدالله، أن لا يخسره كلياً، لصالح المحور السوري-الإيراني و«حزب الله» وحلفائه، بعد أن أدركت الرياض أن حلفاءها في لبنان، وهُم الرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط وسمير جعجع، ليس في مقدورهم أن يجتثوا المقاومة من لبنان، كما لم تنفع محاولات أميركية وعربية الإيقاع بين «حزب الله» و«حركة أمل» واستعادة صراع شيعي-شيعي، حصل في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، وكان مدمراً وقاتلاً للطرفين اللذين أنهيا حربهما الدموية بإتفاق كرّس سياسياً في الإنتخابات النيابية والبلدية، وفي المشاركة بالحكومات.
الأزمة السورية
بعد إندلاع الأزمة في سوريا، أعيدت محاولة ضرب المحور السوري-الإيراني، ولكن هذه المرة من دمشق التي كان مخططاً لها أميركياً أن تشهد «ثورة الياسمين» في العام 2005، تحت تأثير الإنسحاب السوري من لبنان، إلا أن المحاولة فشلت، فكانت أحداث درعا، للاستفادة من زخم ما سمي «الربيع العربي»، فاندلعت «الثورة السورية» على غرار ما حصل في تونس ومصر ومن ثمّ ليبيا واليمن والبحرين، ليتبيّن أن هذه الثورات كان الهدف الأميركي منها وصول «الإسلام السياسي» الى الحكم، وواجهته «الإخوان المسلمون»، لكن النتيجة التي ظهرت مباشرة، أن القوى «الراديكالية الإسلامية» من تنظيم «القاعدة» ومتفرعاته هي التي أمسكت بالأرض…
تمكن النظام السوري من الصمود بدعم حلفائه إيران وروسيا و«حزب الله»، لتلوح بداية تغيير في المنطقة ولبنان تحديداً، في ظل انشغال السعودية بخسائرها في اليمن وسوريا والعراق، مما فرض عليها تغيير سلوكها السياسي، أقلّه في لبنان، للتخفيف من فداحة الخسائر، فتم تحييد اللبنانيين عن الاقتتال الداخلي، بعد أن لاحت تباشيره 2007-2008، وكاد أن يستفحل مجدداً من عرسال التي تحولت الى قاعدة للجماعات الإرهابية، باعتراف وزير الداخلية نهاد المشنوق، لكن الإرهابيين فشلوا في السيطرة على المنطقة رغم إسقاط مواقع الجيش اللبناني ومخفر قوى الأمن الداخلي، إذ تمكن «حزب الله» من تحقيق انتصارات مع الجيش السوري من جبال القلمون والزبداني وقارّة وقبل ذلك في القصيّر ليبعد خطر الإرهاب عن الحدود وليبقى الإهابيين في جزيرة معزولة في جبال السلسلة الشرقية.
الوافع اليوم
أمام الإنتصارات التي تحققت وتتحقق في سوريا، وعدم تمكن قوى «14 آذار» من انتزاع الحكم في لبنان، انتخب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، بعد شغور رئاسي دام عامين ونصف العام، إذ وافق الرئيس سعد الحريري وبشكل مفاجئ على انتخاب عون الذي كان المرشح الأول لـ«حزب الله» وحلفائه، فتمت بذلك تسوية غير مباشرة سعودية-إيرانية، وفق ما كشف وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف. وقد أكّدت الوقائع السياسية حصول التسوية، إذ تبنّت المملكة ترشيح عون بزيارة قام بها وزير الدولة لشؤون الخليج تامر السبهان، الى بيروت وأعطى كلمة السر السعودية التي كانت وصلت الى مسامع الرئيس الحريري، وهكذا سقط «الفيتو» السعودي عن رئيس «تكتل الإصلاح والتغيير»، لمنع مزيد من الخسائر السعودية، إذ سلّمت الرياض بمرشح حليف لسوريا وصديق للرئيس بشار الأسد ومؤيّد لـ«حزب الله» حتى في قتاله بسوريا، مما يؤكد أن الرياض لا تريد خسارة أكثر في لبنان الذي هو البلد الذي يستثمر الخليجيون فيه أموالهم ويجنون أرباحاً من المصارف والعقارات والسياحة، لذلك كان التسليم بمشاركة الحضور الإيراني في لبنان والحفاظ على نفوذ فيه، كي لا يقع تحت قبضة «حزب الله» وحلفائه بالكامل.
إذ ثمة تجربة سابقة بإسقاط الرئيس الحريري من رئاسة الحكومة مطلع عام 2011، لأنه أخّل بوعده بشأن المحكمة الدولية الخاصة باغتيال والده، ولم يسّلم شهود الزور ومَن كان وراءهم، وهم من المقربين إليه كأشرف ريفي ووسام الحسن وغيرهما الى المحاكمة. وقد منع الحريري الابن عن الحكومة بعد ذلك وحلّ مكانه نجيب ميقاتي بتأييد من النائب جنبلاط. ولم يتمكن الحريري من العودة الى السراي بعد استقالة ميقاتي عام 2013، فتبوأ منصب رئيس الحكومة تمام سلام، مع رضوخ الحريري لشرط دخول «حزب الله» الى الحكومة، تحت تبرير «ربط النزاع» مع الحزب الذي يقاتل في سوريا الى جانب الجيش السوري.
ومع عودة الحريري الى السراي، تعود السعودية الى لبنان سياسياً، راضية بتسوية انتخاب عون، وهي التي أرسلت موفداً ملكياً، هو الأمير خالد بن الفيصل، حاملة دعوة للرئيس عون لزيارة المملكة، وهذا ما حصل في أول جولاته الخارجية، لطمأنتها الى أن العلاقات ستعود طبيعية، وأن عليها واجبات تجاه لبنان لا بدّ من القيام بها، كإعادة الهبة لتسليح الجيش، وعودة السياح السعوديين، حيث أبدى السعوديون تجاوباً، مما يؤشر الى أن المسؤولين السعوديين الذين كانوا يهددون لبنان بعقوبات تطال مواطنيه العاملين في المملكة ودول الخليج قد توقفت، لأن هذا الضغط لم ينفع، وباتت السعودية تطلب موطئ قدم سياسي في لبنان لحفظ مصالحها الاقتصادية والحد من نزيف نفوذها الإقليمي.
Leave a Reply