نبيل هيثم – «صدى الوطن»
عبارة واحدة يمكنها توصيف إقدام السلطات السعودية على إعدام الشيخ نمر النمر: «إنّه الجنون»!
فجأة، ومن دون مقدّمات، اختارت مملكة آل سعود دفع المواجهة مع إيران إلى تخوم الجحيم. كانت المملكة النفطية تدرك جيداً أن إعدام النمر سيقطع شعرة معاوية مع الجمهورية الإسلامية، التي صبرت طويلاً على استفزازات الملك سلمان، والثنائي محمد بن نايف ومحمد بن سلمان، بدءاً بحرب اليمن، مروراً بكارثة الحج، وصولاً إلى تشكيل «تحالف إسلامي» لمحاربة «الإرهاب» استبعدت منه واحدة من اكبر الدول الإسلامية فـي العالم، أي إيران!
تجاوزت السعودية الكل، الأصدقاء والخصوم على حد سواء، وتجاهلت كل الدعوات المحلية والإقليمية والدولية لإيجاد حل عقلاني لقضية الشيخ النمر، يمنع جر الشرق الأوسط إلى أتون مواجهة، ضمن إطار سيناريوهين لا ثالث لهما: تسعير الحروب بالوكالة فـي اليمن وسوريا والعراق، أو مواجهة مباشرة تدخل المنطقة برمّتها فـي أتون فتنة مذهبية سنّية-شيعية.
من غير الواضح بعد كيف فكّر أصحاب القرار فـي السعودية حين اختاروا سلوك طريق جهنّم تلك. أهو تحريض للحلفاء الإقليميين والدوليين ضد الجمهورية الإسلامية لمنع دخول «السلام النووي» حيّز التنفـيذ بما يترتب على ذلك مع رفع للعقوبات وانخراط أكبر لطهران فـي الملفات الإقليمية؟ أم أنه «جنون العظمة» لدى حكام مملكة آل سعود بعد فشل كل حروبهم المباشرة (اليمن) وغير المباشرة (سوريا والعراق) فـي فرض هيمنتهم على المنطقة العربية، خصوصاً بعد دخول العنصر الروسي -وبطبيعة الحال الإيراني- على خط الأزمات؟ أم أنه ببساطة «غباء سياسي» ظن معه القائمون على حكم المملكة أن بإمكانهم تهدئة «الدواعش» بإعدام شيخ شيعي إلى جانب 46 متشددين من «أهل السنة»؟
ثمة أطراف خيوط يمكن التقاطها لتحليل بنية العنكبوت المعشش فـي أذهان آل سعود. ولعلّ طرف الخيط هذا يبدأ من اختيار الثلاثي سلمان والمحمّدين إعدام الشيخ نمر النمر كشرارة لإطلاق المواجهة الكبرى فـي الشرق الأوسط.
الخيط الأول يرتبط بإيران، فما يدفع التصعيد السعودي هو الخوف من النجاح المحتمل للاتفاق الأميركي السعودي حول البرنامج النووي.
وليست مصادفة أن يأتي التصعيد الأخير بعد أيام قليلة على صدور تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والذي أزال كل الشبهات العسكرية عن البرنامج النووي الإيراني، وبدء نقل اليورانيوم الإيراني المخصب إلى روسيا، وهو ما يعني بحسب الجدول الزمني لاتفاق فـيينا، بدء المرحلة التطبيقية، التي تلحظ بشكل خاص رفع العقوبات الاقتصادية عن الجمهورية الإسلامية، وإعادة دمج إيران فـي النظام العالمي، وهو ما تعتبره السعودية تهديداً عميقاً لنفوذها الإقليمي.
ويبدو أن السعودية قد سعت بذلك إلى تسجيل هدف ضد إيران فـي الوقت الضائع. ومعروف أن التعبئة ضد الشيعة حركة مألوفة فـي جهود السعودية نحو استمرار العزلة الإيرانية.
ولكن يبدو أن حكام مملكة آل سعود قد فاتهم أن اللعبة الخطيرة هذه تتعلق بدولة مثل ايران، تمكنت دبلوماسيتها من احتواء كل الرياح التي هبّت عليها منذ انتصار الثورة الإسلامية فـي العام 1979، ونجحت، ضمن أحلك الظروف، فـي خوض معركة تفاوضية كبرى انتزعت فـي نهايتها اعترافاً دولياً بدخولها النادي النووي.
ولعل رد الفعل الإيراني على التحركات السعودية الأخيرة يعكس رغبة الجمهورية الإسلامية فـي إنهاء الشوط الأخير من المباراة عبر تشتيت الهجمات السعودية المرتدة.
وليست هذه المرة الأولى التي تتبع فـيها إيران هذه الدبلوماسية فـي مواجهة الهجمات السعودية. ولا بد من الإشارة، فـي هذا الإطار إلى الطريقة التي تعاملت من خلالها إيران على الاستفزاز السابق، المتمثل بكارثة الحج، قبل أشهر قليلة، والذي سعت فـيه السعودية إلى استدراج الجمهورية الإسلامية إلى توتر يخرج عن نطاق السيطرة. وبالرغم من ضخامة المصاب الإيراني حينها، فقد اتسم رد الفعل الإيراني بالثبات الانفعالي العالي، فقد سجلت القيادة الإيرانية مواقف مبدئية قاسية، لكنها لم تنجر إلى خطوات كانت تسعى إليها السعودية للمضي قدماً فـي التصعيد.
والواضح فـي هذا الإطار، أن طهران تسعى إلى تمرير الوقت قبل دخول الاتفاق النووي حيّز التنفـيذ. وإذا ما نجحت فـي ذلك فستكون قد ألحقت الهزيمة الكبرى بمشروع التصعيد السعودي هذا.
العلاقة مع أميركا
أما الخيط الثاني، فـيرتبط بالولايات المتحدة، الحليف الغربي التاريخي لمملكة آل سعود. وكان ملفتاً أن السعودية عارضت كل المبادرات السياسية الأميركية فـي الشرق الأوسط على مدار السنوات الخمس الماضية، وأهمها الاتفاق النووي.
وثمة من يعتقد أن التصعيد السعودي الأخير يخفـي وراءه خلافا بين الولايات المتحدة والمملكة النفطية، فقد جاء قرار إعدام نمر النمر برغم تحذيرات أميركية.
رغم اعتماد السعودية على الضمانات الأمنية الأميركية فقد أبدت المملكة فـي العام الأخير أكثر من مرة رغبة فـي التصرف بشكل مستقل عن الولايات المتحدة. ولم تخطر السعودية الولايات المتحدة فـي آذار الماضي بأنها ستشن مع حلفائها من الدول العربية ضربات جوية فـي اليمن ضد الحوثيين الذين تقول إن إيران تدعمهم إلا قبلها بفترة قصيرة. وفـي الشهر الماضي أعلنت المملكة تشكيل تحالف عسكري إسلامي من 34 دولة لمحاربة الإرهاب، فـي ما نظر إليه مراقبون أميركيون على انه التفاف على «التحالف الدولي» الذي تقوده الولايات المتحدة.
والواضح أيضاً فـي هذا السياق، أن السعودية تخطئ، عبر تحركاتها هذه، فـي اختيار الظروف الدولية. وللمفارقة، فإن إعدام النمر جاء بعد يومين على انطلاق أول ناقلة لتصدير النفط الأميركي، بما لهذه الخطوة من رمزية فـي تراجع الاعتماد على النفط السعودي، وهو ما يؤذن بأن الولايات المتحدة باتت مستعدة للخروج من مستنقع الشرق الأوسط بعد ترتيب الأوضاع فـي هذا البلد أو ذاك، وتثبيت الاتفاق النووي مع إيران.
جرّ الحلفاء الى المواجهة
أما الخيط الثالث، فـيرتبط بالحلفاء السنّة، فخلال الأعوام الماضية، وبعد تراجع دورها الإقليمي فـي مرحلة «الربيع العربي»، قدّمت السعودية نفسها مدافعاً عن السنّة ضد «العلويين» فـي سوريا، وضد الزيديين الشيعة فـي اليمن، وضد «الصفويين» فـي الخليج العربي ككل. وانطلاقاً من ذلك، كان تحالفها الفاشل فـي الحرب على الحوثيين، والذي حوّل ما عرف بـ«عاصفة الحزم» و«إعادة الامل» إلى عملية تدمير جنونية. وانطلاقاً من ذلك أيضاً كان السعي الحثيث من قبل حكام مملكة آل سعود إلى تعزيز شوكة أشد الجماعات الإرهابية وحشية فـي سوريا، ومن ثم العمل على تعويم مجموعات مسلحة لا تقل تطرفاً عن «جبهة النصرة» و«داعش»، لتعطيل آلية الحل السلمي للازمة السورية، خصوصاً بعد احتراق أوراق هذين التنظيمين المتشددين غداة التدخل العسكري الروسي وتفجيرات باريس.
وليست مصادفة أن يأتي التصعيد الأخير ضد إيران بعد فشل المساعي السعودية فـي تشكيل «التحالف الإسلامي» (السنّي)، الذي ولد ميّتاً بعد انسحاب العديد من الدول المنضوية فـي منظمة التعاون الإسلامي منه فور الإعلان عنه، وتردد الدول الأخرى فـي دعمه.
لكن كيف تقوي السياسة الخارجية الطائفـية استقرار النظام داخلياً؟
يجب التعامل مع تعبئة التوترات الطائفـية بالخارج على أنه شيء من اثنين، مناورة سياسية بين قوى إقليمية وأيضاً سبيل لتعزيز السيطرة داخلياً.
وفقاً لهذا التحليل، فإن إيران قد لا تكون الجهة الوحيدة المستهدفة من التصعيد الأخير، بقدر المنافسين السنة الآخرين. فقد ركزت الديبلوماسية السعودية على جهود إعادة نظام إقليمي سني من خلال الإعلان عن «التحالف الإسلامي» وقبله -التحالف السعودي- ضد الحوثيين.
لكن موازين القوى فـي الشرق الأوسط تظهر أن هذا النفوذ سيبقى محدوداً، خصوصاً أن تركيا وقطر ما زالتا تنافسان السعودية فـي الكثير من الملفات المشتعلة فـي المنطقة العربية.
ويبدو هذا ما دفع السعودية إلى وضع الحلفاء السنّة أمام الأمر الواقع، عبر جرهم إلى المواجهة المفتوحة مع إيران.
وفـي هذا الإطار، فإنّ ملامح الفشل السعودي تلوح فـي الأفق. فباستثناء البحرين، فإنّ باقي دول مجلس التعاون الخليجي لم تجارِ السعودية فـي قطع العلاقات مع إيران، بما فـي ذلك الإمارات والكويت، حيث اكتفى معظمها باستدعاء السفراء وخفض مستوى التمثيل الدبلوماسي.
المشكلة فـي الجذور
أما طرف الخيط الرابع، والأخير، فـيتعلق بالوضع الداخلي السعودي. وليس جديداً أن يقوم حكام مملكة آل سعود باستخدام الورقة الطائفـية لتحقيق نزعاتهم التوسعية. هذا الأمر بدأ على الأقل منذ تأسيس الدولة السعودية الأولى، عبر تحالف الدرعية التاريخي بين محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب فـي أواسط القرن الثامن عشر.
ومنذ ذلك الحين نشأ هذا التوازن الغريب بين المؤسستين السياسية والدينية، والذي استمر على امتداد عمر الدولتين الثانية والثالثة.
وبالرغم من أن الورقة الطائفـية استخدمت طويلاً فـي السعودية منذ أيام الملك عبد العزيز، وإن بدرجات متفاوتة، إلا أنها بلغت اليوم درجة من التغوّل الأعمى، بدأت أشكاله الوقحة تتبلور منذ رحيل الملك عبد الله وتولي أخيه سلمان العرش، وما تلى ذلك من إجراءات «انقلابية» فـي البلاط الملكي.
ومعروف أن حكام مملكة آل سعود قد سعوا خلال السنوات الماضية الى استمالة المؤسسة الدينية الوهابية فـي كل مرّة كانوا يواجهون فـيها تحديات داخلية. ولعلّ هذا ما يفسر قيام الملك سلمان بالتراجع عن كل الخطوات الإصلاحية التي انتهجها سلفه عبد الله -برغم محدوديتها- ارضاء لرجال الدين الوهابيين، الذين يعتبرون الضمانة لاستمرارية حكم آل سعود، خصوصاً فـي ظل المصاعب الداخلية التي افرزها الانهيار الكبير فـي اسعار النفط من جهة، وفشل السياسات الخارجية من جهة ثانية.
ولكن الثابت أن سلاح الوهابية يبقى سيفاً ذا حدين يجعل نظام آل سعود يواجه احتمالين: إما التغلب على الازمات الداخلية والخارجية عبر شد العصب الديني الداخلي.. وإما يسرّع الكارثة الكبرى المتمثلة فـي انهيار الدولة السعودية الثالثة… وفـي تاريخ آل سعود الكثير من التجارب المماثلة!
Leave a Reply