مُـر الكـلام زيّ الحُسام يقـطع مكان ما يمرّ
أما المديح سهل ومريح يخدع لكن بيغرّ
والكلمة دين من غير إيدين بس الوفا ع الحر
أحمد فؤاد نجم
تركيا وسياسة الحِرْبَاء: سوريا وجزاء سِنِمَّارْ
كانت الدولة التركية التي أدارت ظهرها للعالم الإسلامي، تعيش في شبه عزلة منبوذة من جميع جيرانها الأوروبيين، رغم أنها فعلت المستحيل وانسلخت عن تاريخها الشرقي والإسلامي لكي ترضي الدول الأوروبية، ليقبلوها كعضو في أوروبا الموحدة، لكن دون جدوى.
ولم يشفع لتركيا قبولها بكل الشروط وتنفيذها كلها، فرغم ذلك أُبْقيت «برّه» السوق الأوروبية، تتجرع مرارة الخيبة. لكن ما إن صعد الجيل الجديد الى حكم البلاد، ممثلاً بـ«حزب العدالة والتنمية»، حتى بدأ البحث عن «الشيفرة» التي يمكن أن تفك عزلة تركيا دونما الحاجة الى الفضاء الأوروبي. وقد اهتدى منظر الحزب ووزير خارجية تركيا الحالي داوود أوغلو الى أن لتركيا عمقاً استراتيجياً عربياً مهماً من الممكن أن يمثل متنفساً اقتصادياً هاماً رغم أنه تم تجاهله لسنين طوال.
المصالحة التركية مع العالم العربي كانت عبر حزب ذو واجهة دينية، بعد أن أدرك ساسة تركيا الجدد أهمية الإسلام ضمن النسيج الاجتماعي والتاريخي للمنطقة. وما أن يَمَّمتْ حكومة رجب طيب أردوغان وجهها شطر البلاد العربية حتى وجدت الترحيب خاصة من جارتها سوريا التي أبرمت معها الإتفاقيات واحترمتها وفتحت أبوابها للسلع والبضائع التركية رغم ما سببته هذه السياسة من خسائر للتجار السوريين. قبلت سوريا التضحية رغبة منها في تأليف القلوب، وسار الأمر كذلك الى أن انتهى شهر العسل الطويل مع بداية الحراك الشعبي في سوريا، حيث انقلبت تركيا على جارتها الجنوبية وكشفت عن وجهها القبيح.
لم يكن «الإنقلاب التركي» مستغرباً، إذ سبق لحكومة «العدالة» أن طعنت النظام الليبي الذي فتح الأبواب للشركات التركية لتحصل على الصفقات المجزية في مجالات البنية التحتية، كما استقبل نظام القذافي أكثر من ٤٠ ألف عامل وتقني تركي. وإذا التزمت أنقرة في بداية الانتفاضة الليبية الصمت في الظاهر، فإنها كانت تتفاوض في الكواليس على مصير مصالحها، ولما حصلت على التطمينات من القوى المتنفذة في ليبيا بأنها ستحصل على جزء من الكعكعة وتحافظ على الصفقات القديمة المبرمة مع القذافي، تحول القذافي، الذي كان يؤخذ بالأحضان وتبويس الشوارب، الى ديكتاتور وانخرط أردوغان علناً في تأجيج الحملة العسكرية ضده.
طبعا هناك من حاول تبرير موقف الحكومة التركية ووصفه بالذكي والبراغماتي، وهذا التبرير أقل ما يقال عنه إنه سخيف ومنافق. فتغيّر المواقف التركية وتلوّنها كتلون الحرباء لا يمكن وصفه إلا بالإنتهازية والغدر.
ولؤم السياسة التركية لم يحتج أكثر من أسابيع قليلة أخرى ليتأكد مع تتطور الأزمة السورية التي تمارس فيها أنقرة أبشع الأساليب رغم نزيف الدم السوري الذي باتت تركيا شريكاً كاملاً في سفكه، وهي التي ساهمت بفعالية اكثر من غيرها من المتورطين في تأبيد الأزمة السورية، فإذا كان الدور الخليجي ممولاً والغربي مسانداً في العمليات الاستخبارية واللوجستية والضغط السياسي، فتركيا التي استغلت قربها من حلب، التي لا تبعد عنها أكثر من سبعين كيلومتراً، كانت تنوي تحويل عاصمة سوريا الإقتصادية الى بنغازي جديدة، فجعلت حدودها الطويلة التي تبلغ تسعمائة كيلومتراً قواعد إستقبال وتدريب وتوجيه لأغلب المجموعات المسلحة في الداخل السوري.
تركيا التي تعرّت أمام العالم، لم تجد حلاً إلا الهروب الى الأمام عبر مواصلة دفع الوضع السوري نحو مزيد التفجير والاقتتال، لأن أردوغان يعلم أنه لو صمد النظام السوري، فستكون تركيا قد خسرت الكثير بإغلاق السوق السوري أو بالأحرى بوابتها للعودة للعالمين العربي والإسلامي، فتعود بذلك الى عزلتها من جديد خاصة مع ارتياب بغداد من الدور التركي، ليس ذلك وحسب بل ستقع تركيا بين كماشة العراق وسوريا جنوباً وإيران شرقاً إضافة الى «الخطر الكردي» المتزايد والذي يمس الأمن القومي التركي في الصميم. هذا دون أن نغوص في تبخر حلم تحويل تركيا الى ممر لأنابيب الطاقة التي تصل حقول قزوين والخليج وشمال إفريقيا بقلب أوروبا الصناعية.
«الحرب التركية» على سوريا: لعبة المصالح
قامت الحرب على سوريا من طرف قوى متعددة محلية وإقليمية ودولية، وكان الجزء الأكبر منها لأسباب سياسية وإقتصادية ودينية، ولكن في مقالنا هذا سيقتصر تركيزنا على الدور التركي وهو أخطر الأدوار.
إقتصادياً: تتوالى الأهداف التركية وفق المراحل التي رسمتها حكومة أردوغان:
– على المدى القريب: كان الدور التركي في مرحلة الحرب يركز على الاستفادة من عمليات السمسرة والعمولات التي يتقاضوها على تهريب وتجارة السلاح والمقاتلين، كما عملت حكومة العدالة على استثمار مشكلة اللاجئين أو بالاصح المهجّرين السوريين الى أراضيها لتحقق مكاسب على حساب مآسيهم، حيث تحولت حالة اللجوء السوري الى دول الجوار هرباً من أعمال العنف المتصاعدة الى أسلوب «شحاتة» في كثير من الأحيان. وإلى جانب ذلك، سعت أنقرة الى تكوين أحلاف محلية تابعة لها يمكن لها توظيفها مستقبلاً، وذلك عبر بناء شبكة من العلاقات مع قيادات الحركات المسلحة وخاصة مع مسلحي ما يسمى بـ«الجيش الحر» الذي يحظى قائده رياض الأسعد بحماية الحكومة التركية وطيب الإقامة على أراضيها الى أن تحين الفرصة لتوظيفه في أي ترتيبات مستقبلية.
– المدى المتوسط: تعمل الحكومة التركية كذلك على الإستفادة من التدمير الهائل الذي تحدثه الصراعات المسلحة في سوريا، فعين أردوغان على ورشات الأعمار العملاقة التي ستُفتح في حال نجح التحالف المناوىء لسوريا في إسقاط النظام. وهذه النظرة الإستغلالية الى الجارة الجنوبية كورشة كبرى تزيد من الأطماع بتوظيف الكثير من اليد العاملة التركية وبيع مواد البناء والإعمار والمواد الاستهلاكية اليومية لشعب بتعداد يفوق العشرين مليون نسمة تم تدمير معظم بناه التحتية.
– المدى البعيد: لا يمكن لتركيا تحقيق أهدافها البعيدة إلا إذا سقط النظام الحالي، حينها ستكون سوريا منهارة وخارجة لتوها من حرب ضروس وطاحنة غير قادرة على استعادة عافيتها بسرعة وبذلك ستكون سوقاً دائمة للبضاعة التركية الأقرب إليها، كما أن إقامة الصفقات مع الأحلاف المحلية، ولاسيما الجماعات الدينية المرشحة للحكم حسب الأجندا التركية، ستعطي تركيا دوراً في الاستثمار وتحويل مصانع سوريا الوطنية الى استثمارات دولية، وهو أمر لن يتم إلا عبر تحقيق هدفين يُعمل عليهم حالياً، أولا تدمير وتفكيك الجيش السوري الذي يعتبر عماد الدولة وثانياً إنهاك الاقتصاد الذي تمتع لعدة عقود بنوع من الاكتفاء الذاتي وبالأمن الغذائي المفقود في معظم دول المنطقة.
سيـاسيـاً: تسعى الحكومة الأردوغانية الى استثمار دورها في الحرب على سوريا حتى تكون لها أوراق رابحة تقايضها إقليميا ومع الغرب. وتركيا التي قلنا إن حدودها مع سوريا تمتد على حوالي تسعمائة كيلومتر تحرص على ان تكون لها اليد الطولى في تحديد طبيعة الحكومة والنظام الجديد الذي يأمل التحالف المناوىء لدمشق بإرسائه، وهو بدون كثير تخمين، النموذج الإسلامي السائد الذي تسلم سدات الحكم في أكثر من بلد عربي، وهناك سعي الى تعميم هذا «النموذج التركي»، مما يعطي «حزب العدالة» زعامة قد تحوله الى «مرجعية دينية وسياسية». فأغلب الأحزاب في البلدان العربية تسمت تقريبا باسم حزبه. والغاية الآن اسقاط النظام السوري لتكتمل الخريطة ويتعمم النموذج التركي لتصبح تركيا لاعباً محورياً في المنطقة، وربما في العالم، ما يعني انفتاح باب الصفقات السياسية لتركيا على حساب الشعب السوري وسائر الشعوب العربية.
ينصب الدور التركي استراتيجياً على أن يحوّل جارته سوريا الى دولة ضعيفة، مقسمة طائفياً على الأغلب، وهذا الضعف سيطلق يد الأتراك في ملاحقة الأكراد داخل سوريا مثلما يفعلون الآن في كردستان العراق ضد «حزب العمال»، حيث يصول الجيش التركي ويجول في شمال العراق ويدخلها متى ما شاء «بلا إحِمْ ولا دستور». ووضع اليد على سوريا يعني فتح الباب لتركيا للتمدد شرقاً في العراق وغرباً في لبنان عبر أحلافها في البلدين، إضافة الى علاقاتها التقليدية الدافئة مع الاردن والسعودية مما قد يجعل منها دولة الباب العالي من جديد.
ديـنـياً: أحد أهم الخصائص التي هيئت لـ«حزب العدالة والتنمية» الحاكم حالياً في تركيا أن يجد صدى واعجاب في العديد من البلدان العربية والإسلامية هو قدرته على الموائمة بين الدين والدولة بين التقاليد والحداثة بين الأصالة والمعاصرة. لذلك حقق النموذج التركي انتشاراً واسعاً بين كثير من الشباب المسلم المتعلق بموروثه العربي الإسلامي والذي لم يجد ضالته في الأحزاب الإسلامية الأخرى المنتشرة في العالم العربي والإسلامي والتي لم تقدم له نموذجاً معاصراً يمكنه من الإستفادة من مزايا المعاصرة مع الاحتفاظ بإنتمائه لدينه وهويته.
وبخصوص هذه النقطة، ما يهمنا هو الدينامية والفاعلية التي يحدثها هذا النوع من الأحزاب دون النظر الى كونه حزباً إسلامياً بالفعل أم هو حزب سياسي عادي يتلحف بالإسلام.
لقد لعب زعيم «حزب العدالة والتنمية» طيب أردوغان دوراً هاماً في تسويق صورة نموذجية لحزبه فبدأ بمحاولة شدّ المسلمين إليه عبر الظهور في صورة الرجل المدافع عن الإسلام والمسلمين فبعث مساعدات الى غزة وتصادم مع شمعون بيريز فحصل على إعجاب المسلمين الذين لقبوه بـ«أردوغان العظيم»، لكن الأحداث فيما بعد كشفت أن الرجل نصب الصنارة فاصطاد الكثير بحركات التهييج العاطفي دون أن يقدم على أي خطوة عملية، ولا حتى رداً على مجزرة «سفينة مرمرة»، كما لم يقم بأي تغيير في المنظومة التي تتحكم بخيارات تركيا الكبرى وعلاقاتها الاستراتيجية ومعاهداتها الدولية.
برز أردوغان كخطيب مفوّه لكنه في المقابل لم يقدم في خطبه سوى الوعود التي لم تكن إلا سراباً، مثل الذي «يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب». الجِنْتِلْ أردوغان عاد مؤخراً الى سيرته الأولى وأراد أن يلعب من جديد على الوتر الديني، حيث قال في خطاب له توجه به الى الحاضرين في مؤتمر «الصحوة العربية والسلام في الشرق الأوسط الجديد: وجهات نظر إسلامية ومسيحية» الذي اقيم يوم الجمعة الماضي في اسطنبول، إنّ ما يجري في سوريا «شبيه بما حدث في كربلاء». وجاء هذا التصريح المكرر بعد أن أعرب قبل يومين أنه سيصلي في الجامع الأموي في دمشق وسيزور قبر صلاح الدين الأيوبي قريباً.
لا شك أن هذه التصريحات لا تخرج عن كونها دغدغةً للمشاعر ومحاولات ساذجة لكسب كل من الشيعة والسنة. أما أكثر التصريحات إثارةً فجاءت في مداخلة اردوغان في ختام المؤتمر المذكور بقوله إنه يعتبر أن «القتل محرّم في كل الديانات السماوية وفي كلّ المذاهب الإسلامية». وهو أمر يناقض ما يمارسه «الطيب جداً أردوغان» على الأرض من ضخ يومي للسلاح وللمسلحين الى سوريا لحرق أخضر الشام ويابسها وسفك الدم السوري. كما إن عسكر أردوغان لم يتوقف عن مهاجمة العزّل في القرى الكردية ويدمر البيوت على رؤوس اهلها ويقتل المئات.
إن تصريح أردوغان يدل على أن الرجل فقد الحياء، إلاّ إذا أراد أن نصدقه مرة أخرى وهو الذي «يبيع القرد ويضحك على شاريه». لأن أردوغان بصدد التحضير هذه الأيام لإستلام شحنة كبيرة جداً من الأسلحة القادمة من دول غربية وممولة خليجياً مع مجموعات جديدة من العناصر المسلحة والمرتزقة. وتعتبر شحنة الأسلحة هذه، حسب المعلومات الروسية المؤكدة، الأكبر والأكثر فتكاً منذ بداية القتال في سوريا، حيث تحتوي على منظومات مضادات للطائرات ومنظومات صواريخ الدفاع الجوي المحمولة والرشاشات الثقيلة، وهو ما يدل على ان المرحلة القادمة مقدمة على «مرحلة كسر عظم» بين تركيا وسوريا، كما قال المعارض السوري هيثم مناع الذي اطلق صيحة، نرجو أن لا تظل في واد، حين توجه للدول الغربية والعربية التي ترسل المسلحين والسلاح الى سوريا قائلا «حلّوا عنّا» وللأسف يبدو أنهم «لن يحلّون» عن سوريا وشعبها.
سوريا التي أعربت عن حسن نواياها مع نظام تركيا «الإسلامي» وفتحت حدودها وأسواقها جازاها النظام التركي جزاء سنمار بطعنها في الظهر، وكان العشم الإبليسي التركي عدم الاكتفاء بما حصل عليه برضى أهلها بل رغب في أن يبتلع كل سوريا ويملك الجمل بما حمل، ولا يصح في مثل هذا الموقف إلاّ قول «إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّد».
ولقد أثبت الشعب السوري خلال السنة ونصف الماضية إنه لا زال متماسكاً، وطويل النفس وكما قال مارتن لوثر: «لا يستطيع أحد ركوب ظهرك، إلا إذا كنت منحنيا»، والشعب السوري لا زال مرفوع الهامة، لذلك نعتقد أنّ العشم التركي ومن لفّ لفّه لن يكون إلاّ كعشم إبليس في الجنة.
Leave a Reply