نبيل هيثم – «صدى الوطن»
لا يمكن لأي عبارة أن تختصر التصرّف الجنوني لنظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المتمثل باسقاط طائرة السوخوي الروسية عند الحدود التركية سوى تلك التي استخدمها الرئيس فلاديمير بوتين، أي «طعنة فـي الظهر».
تلك العبارة سبق أن استخدمها بوتين قبل يوم من حادثة السوخوي، حين طمأن المرشد الأعلى للجمهورية الاسلامية فـي إيران السيد علي خامنئي الى أن روسيا «لا تطعن حلفاءها فـي ظهورهم»، و«لا تتآمر عليهم من خلف الكواليس»، كما يفعل الآخرون، فـي إشارة بالغة الوضوح الى الولايات المتحدة والاطراف الاقليمية التي تدور فـي فلكها، ولعلّ أبرزها تركيا، الشريك المؤسس فـي «حلف شمال الأطلسي».
ولكن طعنة تركيا فـي ظهر الدب الروسي لا يبدو انها ستمر من دون حساب، وفـي جعبة قيصر الكرملين ما يكفـي من أسلحة للرد على الغدر الأردوغاني، من دون أن يُستدرج الى فخ نصبه السلطان المزهو بانتصاره الانتخابي الأخير، أو الى مستنقع سوري، يريده الأتراك خصوصاً، والأطلسيون عموماً، لروسيا، بما يمثّل تكراراً للسيناريو الأفغاني جوّاً، فـي ظل استحالته برّاً، خصوصاً أن القرار الروسي واضح بتوزيع الأدوار الميدانية بين السوخوي جوّاً، والقوى المحلية (الجيش السوري، حزب الله، الحرس الثوري، ووحدات حماية الشعب الكردية) براً.
ولا شك فـي أن مخططات السلطان العثماني الجديد إزاء سوريا، وخصوصاً المنطقة الآمنة الخالية من الأكراد والدواعش على حد سواء فـي الشمال السوري، قد منيت بانتكاسة كبرى، منذ هجمات باريس، أو «11 أيلول الفرنسي»، حينما أيقنت الدول الغربية أن المقاربة الروسية للحرب على الإرهاب الأكثر صواباً ونجاعة. ومما لا شك فـيه ايضاً ان المواقف التي تلت الحدث الباريسي، وخصوصاً خلال لقاء فـيينا السوري، الذي تبنى عملياً خريطة الطريق الروسية للحل السياسي، ومن ثم خلال قمة مجموعة العشرين التي اتهم فـيها بوتين 40 دولة -بينها دول فـي مجموعة العشرين نفسها- بدعم «داعش»، وأخيراً تأكيد قيصر الكرملين لجنوده على ضرورة التعامل مع القوات الفرنسية التي تحارب التنظيم الإرهابي على انها قوات «حليفة»، قد أثارت جنون أردوغان.
ولعل هذا ما يفسر سلوك السلطان العثماني الطريق الخطر، والمتمثل بالقيام بعمل عدائي تجاه الدولة الروسية، وطلب الحماية مباشرة من «حلف شمال الاطلسي»، وهو ما تحدث عنه بوتين بشكل صريح، غداة حادثة السوخوي، حين اشار الى نية تركية واضحة بـ«تسخير الناتو فـي خدمة داعش».
ويبدو واضحاً، أن قرار إسقاط السوخوي لم يكن وليد لحظته، وإنما هو قرار متخذ سلفاً، والهدف منه إعادة خلط الأوراق العسكرية والجيوسياسية، وهو ما تظهره ملابسات الحادث الجوي نفسه.
ولا فرق هنا فـي التطرق الى اسقاط السوخوي انطلاقاً من الروايتين الروسية والتركية معاً.
ففـي الرواية الروسية، فإن الطائرة الحربية استهدفت على بعد اربعة كيلومترات من الحدود التركية، واسقطت فـي ريف اللاذقية الشمالي، أي داخل الأراضي السورية، ما ينفـي التبريرات التركية بـ«الدفاع عن النفس».
أما فـي الرواية التركية، فإن استهداف الطائرة الروسية قد جاء بعد خرقها المجال الجوي، وبعد توجيه عشرة انذارات الى طاقمها. وفـي هذا الامر ملاحظتان لا بد من الاشارة اليهما للتدليل على النية المبيّتة لدى القيادة السياسية فـي تركيا لنصب كمين جوي للروس. الأولى، يظهرها خط سير الطائرة، التي يفترض ان اختراقها المزعوم للاجواء التركية قد تم فـي غضون بضعة ثواني، وهو ما يدحض الحديث التركي عن توجيه عشرة انذارات للطاقم قبل اتخاذ القرار السياسي، ومن ثم العسكري، باسقاط السوخوي، ومن ثم تبليغ غرفة العمليات به، وتنفـيذه عبر مقاتلتي «أف -16». والملاحظة الثانية، أن الأعراف العسكرية لا تجيز بأي شكل من الأشكال الاستهداف المباشر لطائرة غير معادية، فـي حال لم يتضح وجود خطر داهم. وحتى وإن صدر القرار بصد طائرة اجنبية، فالاعراف العسكرية تفرض استخدام أعيرة تحذيرية فـي بادئ الأمر، وهو ما لم يحصل فـي الحادثة الأخيرة.
اذاً يبدو واضحاً أن ما جرى هو كمين جوي بكل ما للكلمة من معنى، والهدف منه تحقيق اغراض سياسية وعسكرية، أبرزها التالي:
– كبح الاندفاعة العسكرية الروسية فـي سوريا، خصوصاً بعد سلسلة الانتصارات التي حققها الجيش السوري بغطاء «عاصفة السوخوي»، ولا سيما فـي الشمال السوري، وبشكل خاص فـي جبل التركمان فـي ريف اللاذقية، حيث اسقطت الطائرة الحربية الروسية. وليس كلام رجب طيب أردوغان بعد ساعات على الحادثة، وتحديداً فـي تأكيده على استمرار الدعم التركي للتركمان، سوى تأكيد على هذا الهدف.
– كبح الاندفاعة السياسية الروسية اقليمياً. وليست مصادفة ان تأتي الحادثة الجوية عقب يوم من الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس فلاديمير بوتين الى إيران، والتي شكلت حجر الاساس لتشكيل تحالف سياسي بين روسيا والجمهورية الاسلامية، يرجح ان يشكل ركيزة لتحالف اوسع يضم الصين ودول «البريكس» والاتحاد الأوراسي ومجموعة شنغهاي.
– محاولة فرض مخطط المنطقة الآمنة/العازلة فـي الشمال السوري عبر استدراج الحلف الاطلسي، وإحراج إدارة الرئيس باراك أوباما، التي صبّت دلواً من الماء البارد على رأس أردوغان برفضها الضمني لهذا المشروع.
ويبدو واضحاً أن غرور أردوغان قد دفعه باتجاه تجاوز كل الخطوط الحمر فـي التعامل مع الدب الروسي. ولعلّ ابرز ملامح المغامرة الاردوغانية هذه أن السلطان العثماني الجديد تجاهل ان هذه هي أول مرة تسقط فـيها القوات المسلحة لدولة عضو فـي حلف شمال الاطلسي طائرة حربية روسية أو سوفـياتية منذ الخمسينات من القرن الماضي، بما يعنيه ذلك من دفع للمواجهة الدولية الى الذروة، خصوصاً أن روسيا-بوتين فـي العقد الثاني من الألفـية الثالثة، ليست روسيا-يلتسين فـي مطلع التسعينات.
ولعلّ ابرز دلالات هذه المغامرة المجنونة أن تركيا كرّست تخليها عن مبدأ الحياد والتوازن، والسياسة المتعددة الابعاد التي اتسم بها عهد الرئيس الاسبق تورغوت اوزال. واذا كان هذا التحوّل الاستراتيجي قد بدأ اقليمياً فـي انخراط تركيا المباشر فـي الصراع السوري قبل خمس سنوات، فإنّ أبعاده أصبحت اليوم عالمية من خلال استهداف قوة دولية عظمى مثل روسيا.
ومن المؤكد ان الرد الروسي لن يتأخر، كما أكد بوتين بقوله ان الحادث الجوي ستكون له «عواقب وخيمة» على العلاقات التركية-الروسية، وهو ما تبدّى بشكل اولي فـي حزمة رد دفاعية أعلنت عنها هيئة الاركان العامة الروسية، واخرى اقتصادية بدأت تلوح فـي الافق حين طلبت السلطات الروسية من رعاياها بتعليق رحلاتهم الى تركيا.
ومن المرجح ان الرد الروسي سيكون مدروساً وموجعاً لأردوغان بشكل عام، وسيشمل، بطبيعة الحال، مروحة واسعة من الخيارات أبرزها:
– رد غير مسبوق ازاء خرق قواعد الاشتباك فـي الجو، وهو ما تبدّى فـي اعلان القيادة العسكرية الروسية عن اجراءات فورية من بينها استخدام المقاتلة الهجومية لمواكبة كل العمليات الجوية، وتفعل منظومة «أس-300» للدفاع الجوي على متن الطراد الضخم «موسكوفا»، والتهديد باسقاط اي هدف جوي معادي، إضافة الى نقل منظومة «أس ٤٠٠» الأكثر تطوراً الى سوريا.
– رد هادىء ومدروس يأخذ فـي الحسبان التطورات الاقليمية والامنية فـي بيئة غير مؤاتية للتصعيد.
– قطع العلاقات الروسية التركية واستدعاء السفـير التركي فـي روسيا واعتباره شخصاً غير مرغوب فـيه.
– زيادة وتيرة التعاون الامني الروسي السوري الإيراني.
– شن حملة اعلامية غير مسبوقة ضد تركيا، وهو ما بدأه بوتين بالفعل حين اتهم تركيا صراحة بدعم الجماعات الاراهبية وتمويلها.
– دعم المقاتلين الاكراد، سواء فـي سوريا أو فـي الداخل التركي كورقة ضغط ضد أردوغان.
– تكثيف الهجمات الجوية على المجموعات الارهابية المتشددة الموالية لتركيا.
– دعم العملية العسكرية للجيش السوري الهادفة الى استعادة السيطرة على جبل التركمان.
– اتخاذ اجراءات اقتصادية قاسية بحق تركيا، قد يكون أبرزها وقف خط الغاز التركي، ووقف الرحلات السياحية التي تعوّل عليها انقرة فـي تغذية اقتصادها بالعملات الصعبة، خصوصاً أن الحديث هنا يدور عن معدّل سنوي يتراوح ما بين مليونين وثلاثة ملايين روسي يقضون إجازاتهم فـي تركيا.
وليس معروفاً بعد أي من الخيارات ستحتل سلم أولويات الرد الروسي، ولكن من المؤكد أن الساحة السورية ستكون الميدان الأساسي للمواجهة التركية – السورية، وهو ما يدفع الى الاعتقاد أن الجبهة السورية بعد حادثة السوخوي ستشهد تطورات دراماتيكية مقارنة بالمرحلة السابقة.
هكذا بدا أن أردوغان قد دفع بالمواجهة الاقليمية والدولية الى مرحلة أكثر تقدّماً فـي خطورتها… ومن المؤكد أن قرار إسقاط الطائرة الروسية ستكون له تداعيات تفوق توقعات أردوغان، الذي اوصلت الانتخابات التشريعية غروره الى نقطة الذروة.
ولعل أكثر من عبّر فعلاً عن هذا الواقع كان الصحافـي الألماني، الخبير فـي الشأن التركي، راينر هيرمان، الذي أكد، خلال ندوة عقدت مؤخراً فـي برلين ان ان التحول السياسي الذي عاشه اردوغان خلال السنوات الاخيرة قد أصابه بالدهشة… ليخلص الى القول انه «لم يعد بجوار أردوغان من يرشده إلى الطريق الصحيح، من أمثال عبد الله غول».
Leave a Reply