تستحيل مقاومة إغراء الكتابة في بيروت. مهما كان سبب الزيارة إلى لبنان أو مدتها، تنتاب المرء رغبة جامحة في الكتابة وهو يتابع المشاهد تتوالى أمام عينيه بسريالية تسخر من الواقع، وغرائبية تفتك بالحقيقة، وعبثية تجعل من الجد مهزلة تستثير الشفقة.
قد تختلف التفسيرات في أسباب الواقع اللبناني المثير، وتترواح بين نشأة الكيان وذيول الاستعمار والطائفية والاحتلال، وصولاً إلى الفيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي وكل ما بين ذلك، إلاّ أن الثابت الوحيد في الحالة اللبنانية يتمثل في المثل القديم المنسوب إلى التراث الصيني والمختلف على مصدره الأصلي مع ثقافات أخرى والقائل «السمكة تتعفن من رأسها أولاً». الواضح في المأساة اللبنانية المتوارثة أن أصل المشكلة في النخب بجميع أنواعها.
النخب هنا لا تقتصر ما تعودنا على تعريفه بالمثقفين وحسب، وإنما تعني معهم وقبلهم النخب السياسية متمثلة في السلطتين التنفيذية والتشريعية والنخب الحقوقية متمثلة في السلطة القضائية ومتمماتها العدلية، والنخب العسكرية المتمثلة في القيادات وكبار الضباط، والسلطة الرابعة المتمثلة في الصحافة والإعلام، والنخب الدينية المتمثلة في رجال الدين، والنخب الاقتصادية المتمثلة في رجال ونساء المال والأعمال والمقاولة، والنخب الثقافية المتمثلة في الأدباء والكتاب وأهل الإبداع والفن.
من نكد الدنيا على لبنان أن ليس في كل من سبق من يمكن الركون إليه أو اعتباره خارج منظومة النشاز المهيمن.
يتربع على رأس السلطة التنفيذية رجل تجاوز الثمانين، قَبِل وتبجّح بتعطيل الحياة السياسية أكثر من سنتين لينفرد بالرئاسة قسراً، ويشاركه فيها فرقاء لم يقولوا فيه أكثر مما قال مالك في الخمر وحسب، بل كانوا من أعلن ترشيحه ليصل إلى بعبدا ليبدأ بتعيين أفراد أسرته تباعاً على غرار أنظمة الاستبداد العربي المجيد. وعلى رأس السلطة التشريعية رجل شريك في كل السلطات، لا يزال هناك بالانتخاب أو التمديد، لا فرق، منذ مطلع التسعينات، فيما مكونات سلطته من نواب الأمة يجمعون بين الوراثة والبوسطات والتبعية، أما السلطة القضائية البائسة فلا مفعول لها إلا بالرشاوى التي تزكم الأنوف وتزوّد المجالس والصالونات بأحاديث أين منها عدالة جمهوريات الموز والمعسكر الاشتراكي الراحل، فيما يتحول المحامون إلى سماسرة يفاوضون على الأحكام كما يفاوض البائع على سلعة؟
أما السلطة الرابعة التي يتهاوى الورقي منها، فتبدو ذراعاً صوتياً افتراضياً للسلطات الثلاث الفعلية. تنطق وتكتب باستنسابية مفرطة، تصوب على خصوم الممولين بدقة عالية وترفع الصوت على «الآخرين» فيما تلتزم الصمت الاستنسابي على أولياء النعمة وتتحول إلى بوق جاهز عند الضرورة.
أما الطامة الأكبر فهي السلطة الدينية التي تدعي تمثيل الله على الأرض، لكنها تصرف نفوذها خدمة للساسة والسياسة، مطاوعين ومحاكم تفتيش غبّ الطلب، ووكلاء حصريون لمخزون الضغائن الممتد عميقاً في الذاكرة الجمعية. تنتفض لمشهد فني سافر فيه شيء من العري أو التشكيك، لكنها تتغاضى عن الفقر المدقع والبؤس الإنساني ومعاناة البشر اليومية، ويحيا رجالها، كلهم ذكور، حياة رفاهية مفعمة بالمآدب والمظاهر الجاه والثراء والسيارات الفارهة، وهم يدعون المؤمنين إلى التقشف والتعفف والبساطة… والتبرع. أما الاقتصاد ففي أيدي من يتقن السطو، الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف، والذين لا محرمات وطنية أو سياسية أو بيئية عندهم ما دامت العقود والصفقات متوفرة.
بين الحسد والتنابذ والتقلب يعيش الفنانون والكتاب وأهل الإبداع الذين يذهلونك عند التعامل المباشر معهم بالفارق الكبير بين صورتهم وبين حقيقتهم. أسماء كبيرة تعاني من ضيق العين والنرجسية المفرطة والإحساس بالغبن. يخلعون على رموز السلطات عباءات غالية الثمن عديمة القيمة، ثم يتسكعون، بالمعنى الحرفي للكلمة، على أعتاب ذوي النفوذ بحثاً عن دور أو منحة أو مكسب، ولا يجدون غضاضة اليوم في شتم من كانوا موضع مديحهم الأزلي بالأمس، من أجل اكتساب ظهور جديد على شاشة لم تشبع منهم بعد، ويمتهنون كيداً ينتقلون من ضفة إلى أخرى بسهولة الإنتقال من نزل إلى آخر، ولا ينسون الشكوى من الضيم في كل حال باعتبار أن الناس لا تقدر قيمتهم النادرة.
القاسم المشترك بين كل هذه النخب، كلها بلا استثناء، بعد شهوة المال، هو الثرثرة والتعميم وتجهيل الفاعل معطوفة على وعي مريض بفئوية مذهبية طائفية تبرر كل شيء وتوظف كل شيء. نخب تعرف كل شيء، أو تدعي المعرفة، تفقه كل شيء أو تدعي، وتتنزه عن كل شيء دون دليل. إن حدثت أحدهم أو إحداهن، واجهوك بأنك لست مقيماً وبالتالي لا يمكن أن تعرف الحقيقة التي هم أهل لها، وإن بيّنت لهم أن الوقائع لا تتلاءم مع ما يذهبون إليه، أسروا اليك أن لديهم معلومات أصلية من مصادر مباشرة، لا يمكنهم البوح بها، تجعلهم على ما هم عليه من موقف، وتالياً، أنت لا تعرف ما يعرفون، ولا يمكنك أن تعرف لأنهم غير قادرين على اطلاعك على معلوماتهم، وعليك فقط أن تثق بهم وبهن وستكون على ما يرام. صحيح أن في كل ميدان أشخاصاً مختلفين، لكنهم قلة قليلة وبمثابة استثناء نادر يؤكد القاعدة الراسخة.
في بلد كهذا ليس غريباً أن ترتفع بين أعمدة فقدت مصابيح إنارتها منذ سنين، ولا تحمل أسلاكها الكهرباء إلا بضع ساعات في اليوم، يافطات، فوق طرقات رثّة تثخنها الحفر وتغطيها المياه المبتذلة آلاف اليافطات المفعمة بالكيدية والمذهبية والمناطقية، المرحبة والممجدة والمنفعلة بموظفين عموميين من فئة مدير عام وما دون، لمناسبة وجبة تعيينات بالمحاصصة. أحصيت خلال زيارتي لبلدتي البعلبكية، في إحدى القرى البقاعية 120 يافطة ترحب بالمعينين، جلها على حساب البلدية التي تعلن، كزميلاتها على امتداد الوطن الأم، أن لا موازنات لديها للإنماء أو لإنارة طريق أو ترميم جدار. موازنات متوفرة فقط لتوازنات التركيبة العجيبة، التي ستتكرر قريباً في انتخابات نيابية تعيد تكوين السلطة ذاتها بالمواصفات ذاتها برعاية النخب ذاتها، لتستمر الحكاية ذاتها إلى أن يقضي الله أمراً كان… مستحيلاً.
ملاحظة: ليس القصد من هذا المقال القول اني ذهبت إلى لبنان وعدت إلى قواعدي سالماً، رغم التهديد والوعيد.
Leave a Reply