عندما عرض فيلم “آلام المسيح”، لمخرجه ميل غيبسون، في دمشق، لم يكن بعض السوريين بحاجة لقراءة الترجمة، مثل بقية المشاهدين في العالم، لكون الفيلم قد اعتمد لغة السيد المسيح الأصلية في الحوار. في سوريا وحدها، مايزال بعض الناطقين، في منطقة ريف دمشق، يتكلمون باللغة السورية القديمة، السريانية، وهؤلاء، ويا للصدفة الوطنية، جميعهم من المسلمين.
في هذه “الجمعة العظيمة” خرج الآلاف من السوريين، ومعظمهم بالطبع لا يعرف حرفاً واحداً من اللغة السريانية، ولكنهم بالتأكيد، يفهمون لغة يسوع الناصري ورسالته، ويحترمون تعاليمه، ويتمثلون تضحيته. سقط ما يزيد عن السبعين شهيداً في جمعة الآلام، برصاص أخوتهم في الدم والثقافة واللغة والوطن. ولهذه الحقيقة أن تندرج بدون عسف في سيرة حياة “ابن الإنسان”، العابرة للزمن وللقارات والأعراق واللغات.
ما فعله المسيح لم يكن عادياً أو متوقعاً، بل على العكس كان صادماً بكل المقاييس. فوحده المسيح استطاع، بكلمة، أن يهز عرش الامبراطورية الرومانية وأن يزرع الرعب في قلوب حكامها وجنودها وكتبتها و”شبيحة”ـها. واستطاع الناصري بكلمة أن يقوض دولة عظيمة. اندثرت روما، وبقي المسيح.. الكلمة.
والسوريون في “الجمعة العظيمة” خرجواً عزّلاً إلا من.. الكلمة، وواجهوا بالصدور العارية البنادق والهراوات والحواجز والمتاريس. أرهب الكلامُ الرصاص. ونزلت الطلقات برداً وسلاماً على قلوب السوريين، ونزلت كلمات المتظاهرين رصاصاً حارقاً يزعزع قلب الحاكم المستبد ويقض مضجعه. تماماً مثلما كان الصليب برداً وسلاماً على قلب المسيح، وتماماً مثلما كانت كلماته سيوفاً ونبالاً في صدور الظالمين. في “الجمعة العظيمة” اختار الكثير من السوريين أن يصعدوا درب الجلجة، لأن كلمة الحق آن لها أن تملأ السماء والأرض!
ومثلما، تعرض يسوع للخيانة، من أقرب تلاميذه، من يهوذا الأسخريوطي، الذي باعه بثلاثين من الفضة، يتاجر النخاسون والمقاولون بدماء السوريين، ويعرضون تاريخهم ومستقبلهم وتراثهم وتجربتهم الحضارية في سوق البيع.. تحت عناوين شتى وتهم عديدة، كالأسلمة والإرهاب والتعاون مع الأعداء.
والقيمة المضافة في سيرة المسيح، أنه لم ينخرط في جيوش الدولة الرومانية، ولم يشارك في جوقة المتعصبين والطامحين بتمكين المجد الروماني في الأرض. بل العكس ذهب إلى قومه، وفضح ظلمهم وعنجهيتهم وخروجهم عن الصراط القويم ومضامين الرسالة الإنسانية، وفعل الشيء نفسه الحسين بن علي الذي صعد طريق كربلاء، هو الآخر. لم يذهب الحسين ليحارب ويوسع رقعة الدولة الإسلامية، ولم تكن الفتوحات شغله، بل وضع نصب عينيه وقلبه، إحقاق الحق، وإقامة العدل، ونصرة المظلوم، وضد من؟ ضد أبناء عمومته وأبناء قومه الذين يدينون بالدين ذاته، ويتكلمون اللغة نفسها.
وأيضاً يتوجه السوريون هذه الأيام إلى كربلائهم لمواجهة الاستبداد والقمع والظلم والفساد متسلحين بالكلمات. بالكلمات.. التي ليست كالكلمات. وها نحن على شاشات التلفزة نشاهد بعض الجرحى السوريين الذين لا يجرؤ منقذوهم على إسعافهم إلى المستشفيات الوطنية. هنالك من يمنع إنقاذهم بطريقة أو أخرى، مثلما كان الجرحى في جيش الحسين الصغير يمنعون من ارتياد النهر ليحظوا بشربة ماء.
في “الجمعة العظيمة” يتلقى المسيحيون التهنئة بـ”فصح مجيد”، والسوريون ينتظرون يستحقون هذه الأيام.. أن يتلقوا التحية بالسريانية والعربية الفصحى: حرية مجيدة!
Leave a Reply