في الاسبوع الماضي كانت عطلة الـ”إيستر” (عيد الفصح)، سنحت لي الفرصة للخروج مع الأطفال من ديترويت المتعبة الى قرية سياحية تبعد عن ديترويت ٣ ساعات تقريباً إسمها غيلورد، وهذه المرة الأولى التي اوفق بها للخروج لغرض الإستمتاع والتنزه، فأغلب سفراتي كانت لزيارة الأصدقاء والأبناء في أماكن دراستهم أو لتلبية دعوة للمشاركة في المناسبات، لذلك لم نشعر بإجواء الرفاهية والإستجمام كما هو الحال في هذه الرحلة، لهذا السبب رغبت في مناقشة الدواعي والاسباب التي تجعل السياحة في الدول الغربية بهذا المستوى الراقي على الصعيدين:
– العملي: وهو المهنية في صنع السياحة ومعرفة أدق تقاصيلها إن على مستوى الشركات السياحية الكبرى التي تحقق الأرباح الطائلة وتتنافس في تقديم افضل الخدمات للسائح وفي مقدمة تلك الخدمات منح الثقة والأمانة والصدق للسائح، وإن على صعيد نشر ثقافة السياحة للناس العاديين الذين يؤجرون منازلهم في أماكن الراحة والإستجمام.
– والنظري: الإستفادة من العلوم الحديثة في دراسة نفسية السائح ورغباته وتقديمها في إبسط القوالب غير المكلفه وتستقطب السائح مهما تكن ثقافته وإيدلوجيته، ربما هذه الصورة التي أستعرضها هي واحدة من آلاف الصور، وقد يقول القارىء أنني لم آتي بجديد، لكني في الحقيقة ذهلت من المعاملة الصادقة التي لا تحتمل المجاملة، وإذا لم نحسن الظن وقلنا أن هذه المعاملة هي من أجل الكسب المادي، فما المانع أن يبيع التاجر سلعته وقلبه أبيض ونظيف، افضل من أن يبيع بضاعته واخلاقه سيئة.
قبل أن نسلط الضوء على احوال السياحة في الوطن العربي نستطلع حجم التفاوت في المفهوم لمعنى السياحة، بين الجهات الرسمية وبين التيار المتدين الذي يرفض تفسير الجهات المسؤولة لمعنى السياحة، بل هم يعتقدون أن ثمة مؤامرة تحاك من جهات غير مسلمة تعمد على التواجد في ديار المسلمين تحت ذرائع مختلفة، هدفها تطبيع ثقافتهم السياحية، لذلك هم أقصد المتزمتين، يثيرون المخاوف من عبث السُوَّاحُ الأجانبُ في المجتمع المسلم خشية الإختراقُ ونشر سلوكياتِهم المشينة، وأفكارِهم المُنحلة وأمراضهم الفتَّاكة، حسب زعمهم. ولم يكتفوا بالتلويح بالعصا والتهديد خشية ضياع القيم بفعل تواجد الأجانب، بل لوحوا بالعصا في وجه الحكومات تحذيرا على الأمن، ويعتبرون السياحةُ والسُوَّاح سببٌ من أسبابِ هذا الخللِ الأمني.
إن الذين لا يرون في السياحة الا وجهها الديني، المشتمل على العناوين التالية، الصيام، الجهاد، هجرة إلى الدعوة، رحلة لعلم نافع، والسير في مناكب الأرض، وتأمل في ملكوته لإدراك عظمته والإقرار بتوحيده، وتضاف لهذه العناوين المتفق عليها عند المسلمين، عناوين مختلف عليها في تفسير معنى السياحة، أبرز تلك العناوين زيارة الأماكن المقدسة، مع ذلك فإن شريحة من المسلمين لا تعترف إلا بثلاث أماكن، بيت الله الحرام، مسجد النبي (ص)، المسجد الأقصى، هذا التفسير عند المذهب الحنبلي، أما المذاهب الاخرى الشافعي، المالكي، الحنفي، الجعفري، الزيدي، الأباضي، الإسماعيلي، توسّع دائرة السياحة لمراقد الأولياء الصالحين.
أما تفسير تلك العناوين لمفهوم السياحة، من المسلمين من ضيّقوا على أنفسهم، وحكموا على كل مسلم خرج من ارضه ووطنه الى مكان أخر للترفيه عن نفسه وعياله، أو مواطن هرب من جحيم الحر الى بقعة باردة في دولة أوروبية، فهو متهم بضعف العقيدة والهزيمة الفكرية، وبالتالي كل مسافر الى أماكن الإصطياف فهو مشارك في إشاعة الفاحشة والرذيلة وإجتثاث القيم، وذبح الفضيلة. من هنا راجت فتاوى حرمت السفر إلى بلاد الغرب والشرق الكافرة.
حرمة السفر للبلاد الكافرة
يقول أصحاب هذا التوجه، بتجريم سياحة المسلم في البلاد الكافرة مطلقا لما فيها من مفاسد تعود على دين وخلق المسلم باختلاطه مع تلك الأمم التي لا تراعي دينا ولا خلقا، إن مجرد الإختلاط مع الكفار والإقامة بين أظهرهم يعدّ خطراً على عقيدة المسلم، أنظر أجوبة ألأسئلة رقم أنظر أجوبة الأسئلة ١٣٣٤٢ و٨٩١٩ و٥٢٨٤٥، فتاوى الشيخ الفوزان، ولم تنته هذا الفتاوى عند حدود الخارج بل إستمرت تلاحق الناس في أوطانهم، فقال “ومما يحزن القلب ويعظم الخطب أن تتسلل بعض هذه المفاهيم وتلك السلوكيات في السياحة المعاصرة إلى عالمنا الاسلامي، إن هذه النظرة لظواهر الأمور وتفسيرها وفق رؤية منغلقة، حكماً على مجهول لا يصمد أمام الأدلة والبراهين التي توضح حجم التلاقي بين شعوب الارض وضرورة التلاقي بين الثقافات البشرية، والمحاولات الجادة للتقريب بين الاديان، ولا يمكن بإي حال الخلط بين قلة قليلة في المجتمع المسلم تهاونت في الحفاط على هويتها الاسلامية، تكون مبرراً في الحكم على هذا المرفق الحيوي الأسهل للوصول الى هذا العالم المتنوع”، حيث لم يمنع الباري عزّ وجلّ عباده من الانطلاق في ارضه الواسعة، ليس للتبشير بدينه، وإنما تارة لطلب الرزق، وأخرى لطلب الأمان وثالثاٌ للفرار بالدين، يقول تعالى: ﴾الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا ألم تكن ارض الله واسعة فتهاجروا فيها﴿ وارض الله في كل مكان، فلماذا يمنع الناس عن الانتشار في ارض الله حتى ولو كان لغرض السياحة.
أخيرا إن مقابلتي لهذه الأسرة الأميركية كشفت لي إن السياحة اسهل طريق للوصول إلى القلوب البعيدة عن إدراك الحقائق، وإذا لم يكن الهدف هو تبليغ الرسالة، يكفي أن يكشف المسلم عن هويته بالمعاملة الحسنة والأخلاق الطيبة، وهل قام الاسلام إلا على أخلاق محمد (ص).
Leave a Reply