عماد مرمل – «صدى الوطن»
برغم أن قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسحب الجزء الأساسي من قواته فـي سوريا ينطوي على أبعاد اقليمية-دولية، عابرة للقارات، إلا أن السياسيين اللبنانيين لم يتأخروا فـي صرفه الى العملة السياسية المحلية، وزجه فـي زواريب الحسابات الداخلية الضيقة.
طائرات حربية روسية على مدرج مطار حميميم العسكري في اللاذقية. |
ومع ان عواصم القرار فـي العالم بدت حذرة، للوهلة الاولى، فـي مقاربة الانعطافة الروسية، الى حين استكمال تجميع المعطيات التي من شأنها أن تساعد فـي فهم الدوافع الحقيقية لموقف بوتين، واستشراف تأثيراته المحتملة على التوازنات الكبرى.. ظهر اللبنانيون، من جهتهم، واثقين فـي قدراتهم التحليلية التي جعلتهم يسبقون اللاعبين «المحترفـين» الكبار فـي عملية تشريح الخيار الروسي المستجد واستخراج دلالاته. والمشكلة فـي لبنان، أن الاحكام غالباً ما تكون جاهزة قبل تقفـي أثر الادلة، بل أن الأدلة توضع عادة فـي خدمة الأحكام المعلبة، وتُفصل على قياسها، فتتقدم العربة على الحصان، بحيث تجره هي وليس العكس!
بهذا المعنى، فإن هناك بين السياسيين اللبنانيين من لا يجد حرجاً فـي إعادة فك وتركيب أي تحول إقليمي أو دولي، ومن ثم تفسيره وفق الأهواء الحزبية والمصالح الشخصية، بمعزل عن سياقه الأصلي واستهدافاته الحقيقية.
والمفارقة، ان معظم السياسيين ممن سارعوا الى الادلاء بآرائهم فـي الدلو الروسي لا يملكون حدا أدنى من المعلومات أو المعطيات حول أسباب ما حصل، والاكيد ان بوتين لم يتشاور مع اي منهم قبل ان يتخذ قراره بالانسحاب من سوريا ولم يأخذ بعين الاعتبار انعكاساته المحتملة على موازين القوى فـي لبنان وعلى مستقبل المعالم الأثرية المتبقية من «امبراطوريتي» 8 و14آذار.
وعليه، فان قدراً كبيراً من العواطف والتمنيات يتحكم باتجاهات المواقف التي صدرت عن أطراف داخلية عدة حيال النقلة الأخيرة والنوعية لبوتين فوق رقعة شطرنج الأزمة السورية، حيث فاجأ خصومه بقفزة مباغتة من خانة الى أخرى، قائلا لهم: «كش ملك».
وكما ان اللبنانيين المؤيدين لنظام الرئيس بشار الأسد هللوا كثيراً للتدخل العسكري الروسي فـي سوريا عند حصوله، فـي مقابل حالة انكماش واحباط سادت حينها لدى خصوم النظام، فإن قرار الانسحاب أعاد خلط الاوراق والعواطف من جديد فـي الساحة الداخلية.
وهكذا، أصيب أنصار محور المقاومة والممانعة بخيبة أمل بعد إعلان بوتين المفاجئ عن بدء مغادرة قواته سوريا، بينما ارتفعت على الضفة الاخرى معنويات أنصار المحور المضاد وانتعشت قيادات «14 آذار» بين ليلة وضحاها، بعدما كانت قد عجزت منذ أيام عن تنظيم احتفال مشترك فـي ذكرى اطلاق حركتها السياسية قبل 11 عاما، بسبب الخلافات المتراكمة بينها.
وإذا كانت مظاهر القلق بادية بشكل واضح على شريحة واسعة من جمهور فريق «8 آذار»، إلا ان شخصيات هذا الفريق تحاول التقليل من شأن التداعيات والدلالات المترتبة على قرار الانسحاب الروسي، لافتة الانتباه الى أن موسكو لا تزال تحتفظ بتواجد عسكري معين فـي قاعدتين حربيتين فـي الداخل السوري، إضافة الى انها تركت خلفها نظام دفاع جوي متطور، وتركت الباب مفتوحاً أمام معاودة التدخل المباشر مرة أخرى إذا استدعت التطورات ذلك.
والاهم من كل ما سبق -بالنسبة الى القوى اللبنانية الحليفة للنظام- ان موسكو لم تتخل عن تحالفها الاستراتيجي مع دمشق التي استطاع بوتين اأن يستعيد عبر بوابتها دورا مفصليا فـي المنطقة وبالتالي ان يفرض نوعا من التوازن والشراكة على الساحة الدولية بعد فترة طويلة من الأحادية الاميركية المدمرة.
وتستغرب هذه القوى محاولة بعض أطراف «14 آذار» تصوير القرار الروسي بالانسحاب الجزئي من سوريا وكأنه انتصار لها ولرعاتها الاقليميين والدوليين، فـي حين أن ما جرى لا يتعدى حدود اعادة الانتشار فوق رقعة الازمة، لدفع المعارضة السورية وحلفائها الى الانخراط فـي الحل السياسي، بعدما نجحت موسكو فـي تغيير المعادلة الميدانية على الارض وتصحيح الخلل فـي التوازن العسكري.
فـي المقابل، يعتبر المتحمسون فـي «14 آذار» ان الانعطافة الروسية تصب فـي مصلحة ما يسمونها ثورة الشعب السوري، مشيرين الى أن موسكو أرادت من خلال مسارعتها الى الانسحاب أن تتجنب المزيد من الانغماس فـي الرمال السورية المتحركة، خصوصا ان مشاركتها فـي الحرب باتت ترتب عليها أعباء اقتصادية ومالية باهظة. ويعتقد هؤلاء ان من بين أسباب التحول فـي موقف موسكو ميل الرئيس بشار الاسد الى مزيد من التشدد فـي طروحاته السياسية مستقويا بـ«العضلات» الروسية وما انتجته من تبدل فـي موازين القوى على جبهات القتال، فـي حين أن بوتين يشجع على إجراء تسوية متوازنة على قاعدة تبادل التنازلات بين النظام والمعارضة.
ويأمل خصوم الأسد من اللبنانيين فـي أن تنتقل عدوى الانسحاب الروسي الى كل من إيران و«حزب الله» المدعوين -برأيهم- الى مغادرة الميدان السوري كذلك واستخلاص العبر من الموقف الروسي الذي تعامل بواقعية مع الأزمة، برغم ان قدراته تفوق بكثير طهران والحزب، مشددين على ان الاستمرار فـي المكابرة ونكران حقائق الواقع لم يعد ينفع.
Leave a Reply