بقلم: كمال العبدلي
درجَ الرُواة منذ فجر الارتجالِ الشعري ومن ثمّ تدوينه، على أنّ أفضلَ نقدٍ هو الصادر عن الشاعر ذاته في نقدِ نتاجِه، ولكنْ كم أصيبَ بالخيبة أولئكَ القائلون بأنّ الشاعرَ حين يتفاجأ بنضوبه الشعري، يتّجه إلى النقد، وما يدعمُ رأيَنا تلك الحصيلة التي انبرت عن الشاعر العالمي توماس ستيرينس اليوت مُبدِع ديوان «الأرض الخراب» أو «الأرض اليباب» في بعض الترجمات، يومَ أهدى ديوانَه إلى الشاعر إزرا باوند مُخاطِباً إيّاه بـ«الصانع الأوّل» إذ كان ناقداً لشِعرِه، وعلى هذا البناء فإنّ النقدَ مُتاحٌ للشاعرِ مثلما هو مُتاحٌ لدارسِ الشعر انشِطاراً أو تداخُلاً.
أسوق هذه التقدمةَ المُبتسَرَةَ تمهيداً لِما تحصَّلَ لديَّ من نقدٍ انطِباعيٍّ بعدَ اطّلاعي على القصائد العشر للشاعرة العراقية كولالة نوري المنشورة في مجلة «العربي الأمريكي اليوم» ضمن عددها المرقَّم 77 والصادر في أيّار (مايو) 2019.
وتتحتّم عليَّ الإشارةُ إلى أنّني لم ألتقِ بالشاعرة كولالة نوري سوى مرّة واحدة –عرَضاً– في نادي الاتّحاد العام للأدباء والكُتّاب في العراق إبّان الثلث الأخير من العام 1998، حيث كان قد استضافَها صديقُنا المُشترَك، الشاعر منذر عبد الحر، وربّما كانت الشاعرةُ في تلك الفترة تتدرّج في مدارجِ البدايات قبل أن تنطلقَ –لاحقاً– إلى التحليق في العالم الشعريّ الواسع بعيداً عن الوصايةِ أو التحجيم من قِبَلِ سلطات النشر في ذلك الحين على رغم الفوّهَةِ الضئيلة التي انفتحت على التعبير بفعلِ ضغط الحرب وتداعيات الحصار الذي أعقبَها وتركَ ظلاله الثقيلةَ السود على الحياة العراقية في مُجمَلِها فضلاً عن الهمّ الثقافي من بين الأنشطة الأشدّ التصاقاً ووقعاً داخل المجتمع العراقيّ.
عِبرَ قصائدها العشر التي أشرنا إليها، تتنقّل الشاعرةُ بين تفاصيل عالمِها الشعريّ، يحدوها الإحساسُ العميق بغُربةِ المكان جنباً إلى جنبِ غُربةِ الروح، لتتَفتّقَ عن القصائد، مُفارَقاتٌ تبعثُ على الإدهاش في نفس القارئ، كما نلاحظ في نهاية قصيدتِها «النوم مع كاتِمِ الصوت»، إذ تنشج:
«أقول: لهذا أشمُّ رائحةَ البارود
إنّها رائحةُ النومِ معَ العدوّ».
أمّا في قصيدتِها «لكُنتُ كاليفورنيا»، فإنّها توظِّفُ حالةَ التمنّي من أجلِ أن تسترسِلَ مع البوحِ الشعريّ كقدَرٍ يُلازمُ الشاعرَ أينما حلّ أو ارتحل:
«لَو أصبحتُ ما أتمنّى
لكُنتُ كاليفورنيا
لاستقبلتُ ضحكتَكَ الأولى
ولَكُنتُ شاهدةً كَتومةً لأحزانِك
التي تكبتُها إلّا ما تيسّرَ من الغفلة».
وفي نهاية القصيدةِ تصدمها الخيبةُ من ذلك التمنّي:
«لكنّني لستُ كاليفورنيا
بل أنا المُنزويةُ دائماً
في مُلحَقاتِ الأمكنة
وفي صالةِ نهايةِ موسمِ الصيفِ فارغة القلب
إلّا من بقايا قُبلةٍ في مقطعٍ قصير».
وحينَ نسترسلُ مع الشاعرةِ ضمن قصيدتِها (عشتُ حياةً محظوظة)، تُحيلُنا إلى المَشاهدِ المُروِّعةِ للحرب، باعتبارِها شاهدةَ عَيانٍ عليها:
«دائماً كنتُ أنجو
حين قصف الجبل وكنّا هناكَ وجدنا خندَقاً
تحوّلتُ مع أخَواتي إلى أميراتٍ نائمات
عندما فاضت الموجةُ الفاصلة بين الموتِ والحياة».
ومن جوٍّ شعريٍّ إلى آخر، تصحبُنا الشاعرة إلى توظيفِ التحليلِ العلميّ للمادّة شِعريّاً وبتراكيب لُغَويّة مُتناغِمة تدعو للتأمُّلِ أمام صورةِ الصِراع بين المادّةِ والروح، كما في قصيدة «أتجرح يدَكَ التي مددتَها»:
«تنكسرُ المرايا
عندما تُراهنُ نفسَكَ من أجلِ إطارٍ لامع
المرايا لسنَ سوى زجاجٍ من تُرابٍ مصهور
لذلكَ حينَ تتكسّر لا تمدّ يدَكَ أكثر
هي رغبةُ المرآةِ لتعودَ للتُراب»
أمّا حينَ تصِفُ حسراتِها كما في قصيدة «هذه الأبخِرة»، فالشاعرةُ تُشعِرُنا بحالةِ الوجعِ الذاتيّ الذي يكادُ يكونُ كونيّاُ مثلما يمرُّ علينا في الكثير من المواقف المُحزِنة:
«إنّها زفراتٌ لحسرةٍ في صقيعِ المشاعرِ فجأةً
هذه الأبخِرة
إنّها زوبعةُ كلماتٍ مذبوحةٍ تتخبّطُ في ترابٍ بلا هدف
إنّها ليستْ لعودِ البخورِ صباحَ عُرس
إنّها أصابعيَ العشر تحترقُ لظلامِ رأسِك
هذه الأبخرةُ لِندى البحرِ أغليهِ بملامِحي
علّني أمسحُ تورُّمَ العشقِ في حنجرتي كلَّ عام»
وتستمرُّ في بَوحِها الشعريّ إزاءَ المُخاطَب المجهول أو المعشوق، كما في قصيدة «مثل طفل غير خلّاق»:
«فأنتَ لا تطبخ إلّا انتِظاري
علّني أملُّ من تفاصيلِكَ ومن غيبوبتي خارجَ نفسي
كما يملُّ كاتبٌ مزاجيٌّ من كلِّ كتُبِهِ
لكنّني كطفلٍ غير خلّاق
يصرُّ على سَماعِ قصّةٍ واحدةٍ من جدّتِهِ
وكلَّ ليلةٍ قبلَ أن تصلَ النهايةَ ينام».
لتُعيدَ إلى الأذهانِ مشهداً قديماً مرَّ في حياتِنا، لكنّها هنا تُلبسهُ ثوباً جديداً وتبثّ فيه نبضاً حيّاً تقدّمُهُ أمامَنا وكأنّه لم يعُد من الماضي السحيق! وتلك مُفارقةٌ مُذهلةٌ إذ تنبشُ الشاعرةُ في الذاكرة لتلتقِطَ المنسِيَّ منها.
وإذ نعرُجُ على العنوان البارز، بريق اليومي في القصيدة الحديثة، فلعلّه بكلّ وضوح، يتوهّجً في قصيدتَيها:«كورقةٍ لشجرةِ سنديان» و«شكراً لأنّكَ لستَ في حياتي» المُهداة إلى كلِّ الغرباء الذين صادفَتهم في عيد الشكر لأنّهم في حياتِها:
«شكراً لكلِّ الغرَباءِ الذين صادفوني اليوم
الرجل المُسِنّ وهو يطلبُ من حفيدِهِ
أن يُهَنِّئني بعيدِ الشكر
المُشرَّد الذي هتفَ بي:
أيّتها الجميلةُ لا وقتَ للحُزن
ساعي البريد الذي مازحني:
لابريدَ لكِ اليوم
هناكَ قلوبٌ كثيرةٌ في طريقِها إليكِ».
ونختم موضوعةَ البريق في القصيدة الحديثة بنصِّها المعنون «كورقة لشجرة سنديان»، أنقلُها كاملةً لكي أدَعَ للقارئ فرصةَ التأمُّل، بمعنى كيف يحفرُ الاغترابُ أثرَهُ العميق في النفسِ البشرية:
«في الشوارعِ الفارغةِ لديربورن
أسقطُ مثل ورقةٍ لشجرةِ سنديان
كطفلةٍ لا شريكَ لها
غير ريحٍ باردة لثلجِ شباط
تأخذني لكلّ الاتّجاهات
تطيرني خفيفةً حيناً تدحرجني تحت سيارات فارهة
تقذفني على البيوت الساكنة
لعوائل تشاهد فيلماً كوميدياً
أو تجتمع بمرحٍ على المائدة
لا هدفَ لي كورقةٍ تسقطُ سوى الهاوية
تتآكلُ أطرافي من تنقّلي بين الاتّجاهات
وأتفتّت..
بعضي يستقرُّ في ركنٍ لمحلِّ كنافة
وبعضي الآخر في محل «دولار تري»
وجزءاً منّي تحرقهُ سيجارةٌ رماها مُدمنٌ بإهمال
أمّا نصلي فتعلّقَ في مزرابِ مدينة ميّتة
لرؤوسٍ كأنّها لم تغادرْ مواقعَها قَطُّ».
مرحباً بالشاعرة كولالة نوري في ديربورن، ولستُ أدري إن كانت لا تزال مُقيمةً فيها أم اختارت الطيَران للتحليق في بقعةٍ أخرى من هذا العالم!
Leave a Reply