كايد مصاروة
نعم، إنها بلاء وابتلاء، هذه الجائحة التي انطلقت من الصين وضربت كل زاوية من زوايا العالم وأشدها شرقنا المكلوم! لم يكتف القدر بحجم المآسي التي يعيشها وطننا الكبير من جوع وفقر وحروب في سوريا والعراق ولبنان وليبيا وفلسطين واليمن والأردن.. إلخ بل شاء أن يفضح فسادنا وعدم جاهزية أنظمتنا لأي شيء. مأساة «كوفيد–19» التي تنخر مجتمعاتنا بلا رحمة أو تمييز.
الشاعر العربي والإنسان جريس سماوي كان آخر ضحايا الوباء ولم يكن وحيداً. بل قبل انتقاله للقاء ربه بأسبوعين فقط، فقد أخاه الأصغر، سليم، الذي يصغره بعشر سنوات، الشاب الرياضي المتمتع بكامل صحته، أيضاً راح ضحية هذا الوباء اللعين. أرقام الإصابات في الأردن في تسارع، والدولة شبه عاجزة عن فعل أي شيء أمام حجم الكارثة، والقطاع الصحي يتهاوى أمام أعينها بلا حول ولا قوة.
ولد شاعرنا المرحوم عام 1956 في قرية أردنية صغيرة بحجمها، عظيمة في تأثيرها بالتاريخ الوطني الأردني والشامي، تدعى الفحيص. درس وتعلم كأي شاب من عائلة محدودة الموارد ولكن غنية بالمواهب في مدارس الدولة. كان والده شاعراً شعبياً متعمقاً بالتراث والقصص ناهيك عن بحر واسع من الأيقونات وقصص الكتب المقدسة بخيالها الممتد بلا حدود. عشِق السفر والتنقل مع عائلته ووالده الذي تطلب عمله ذلك. هاجر جريس وعائلته إلى نيويورك، مثلنا تماماً، قاصداً العلم وتحسين الحال. هناك تألق وأبدع وسط تناقضات نيويورك وعظمة محتواها من فن وإبداع وموسيقى وحانات التراث ومعابد المعرفة والثقافة بكل أنواعها. كان يدرس ويعمل ليغطي احتياجاته ثم يكتب ويشارك ويقرأ أشعاره في كل مناسبة ومكان. حياة نيويورك والدراسة في كلية الهندسة فتحت عينيه على أنه مهندس من نوع مختلف. هندسته كانت الفن والأدب الوطني والإنساني. عشقه لوطنه الأم وللغته العربية بكل طاقاتها والتي أحبَّها حباً أبدياً. توغّل وتعمّق بالكتابة من شعر إلى قصص قصيرة ومسرحيات، وشارك في كل مناسبة وطنية، حتى وصل حداً لم يقاوم فيه جوعه وعطشه للعودة إلى الوطن.
عاد الشاعر للفحيص والأردن. عاد وانخرط في الجامعة الأردنية. هذه المرة، ليبحر في عالم الأدب الإنكليزي وليرفع من منسوب عطائه ليصبح إنسانياً عابراً للجغرافيا والقارات. عمل بالتلفزيون الأردني ونقل برامجه الأجنبية نقلة نوعية للعصرية والحداثة. أصبحت مشاركاته وأدبه في كل مكان في الأردن وفلسطين وسوريا ولبنان، كيف لا وهو الشامي النقي!
كان لجريس دور مهم وعلاقات قوية في الحركة الوطنية والقومية بالوطن، وكان رفيقاً مقرباً للمرحوم الشهيد الكاتب اليساري ناهض حتر ومعلماً ومرشداً لشاعر الأردن الحديث المرحوم حبيب الزيودي. كان لجريس حضور قوي في رابطة الكتاب الأردنيين والعرب وقدم الكثير لبناء بيوت ثقافة وأدب في الأردن وخارجها.
وعندما حانت الفرصة المناسبة، لم يبخل على الأردن بمواهبه القيادية فاستلم إدارة مهرجان جرش وانتقل به إلى آفاق جديدة، وعمل مع المرحوم طارق مصاروة وتبوأ وزارة الثقافة حيث فتح مشاريع الثقافة الأردنية أمام العالم ليغنيها بمختلف لغاته وتراثه. تخلى «أبو حنا» –كما كنا نناديه– عن جنسيته الأجنبية من دون أدنى تردد عندما تطلب القانون منه ذلك ليخدم الأردن. للمرحوم أعمال كثيرة بعضها يجري تجميعها الآن بينما تمت ترجمة البعض الآخر من أعماله للغات الإنكليزية والإسبانية والإيطالية وغيرها.
يحزننا أن نرى فذاً بهذه المواهب والقدرات والإحساس الوطني والإنساني يتركنا مبكراً وبهذه الطريقة. له الرحمه وندعو المولى أن ينهي هذا الموسم المؤلم للعالم بأجمعه.
إليكم إحدى جميلاته، قصيدة بعنوان ياسمين الشام:
من على رأس قاسيون
أطلُّ على نقط الضوء،
المدينةُ في سفحه امرأةٌ
تتزينُ بالضوء
كمْ من بيوتاتها تشعلُ عبر النوافذ أحلامها!
كم تطلُّ البناتُ على غبشِ الليل منها
وتنتظرُ العابرين!
عابرون على الشام مرّوا
وهي الأميرةُ
كلٌٌّ رمى عند أقدامها سيفَهُ وهداياه
كلٌّ رآها على عرشها
لم تبارحْهُ منذ تفتقت الأرضُ عن بردى.
بردى مذ جرى وأفاض على الزرع،
والياسمينُ يوزع أنسامه في فضاء من الشرفاتْ
شرفاتٌ من الياسمين تهيئن للعاشقات
الحييّاتِ تشكيلة الشَعرِ
والياسمينُ نساءٌ تفوح أنوثتهن على الماء
يا بردى، عدْ قليلاً إلى الجريان، قليلا
كي تمرَّ العذارى،
العذارى بناتُك يا نهرُ
يا بردى يا أبي، ارجعْ الدفقان قليلاً،
قليلاً ونعبرُ جسر الحكايات
ندنو من الماء
عطشى بناتك يا نهرُ
وابنك عطشان لم يرتو الإبن
من فيض والده،
لمْ يرتو الابنُ بعدُ من الشمِّ يا ياسمين الشآم
ابن مَنْ أنت؟ يسألني قاسيون
ابن نهرٍ قريبٍ جنوب الشآم
أبي جاء من بانياس
وسار جنوباً إلى الغور
يحرسه العشب والماء،
أمي حفيدةُ حوران،
عائلتي القمحُ والداليه.
يا بنات الجنوب
هيئنْ لي فرسي ومتاعي
انا راجع عند أهلي
واهلي قبائلُ عطرٍ من الياسمين
أنا ابنهم، أنا
ولم يرتو الابن بعدُ من الشمِّ
لم يرتو الأبن من فيض والده النهرِ
يا بردى… آه يا بردى
Leave a Reply