بقلم: كمال العبدلي
ليس لمناسبةِ رحيلِهِ أتناولُ إبداعَ الشاعر والكاتب الإنسان جورج جرداق، ذلك لأنّه سيبقى الشخصيّةَ والإسمَ المتداوَلَيْن على مدى بقاءِ القِراءةِ رديفاً للحصانةِ ضدَّ الجهل، وأنيساً ضدَّ التوحّشِ فـي حياةِ الكائنِ البشريّ، وإنّما أتناولُهُ لأنّهُ أثارَ فـينا وجعَ الرحيل ورفعَ منديلَهُ إيذاناً بتدشينِ السفر ضمن قافلة الوداع الذي يظلُّ قاسياً مهما حاولنا التخفـيف من ثقلِ حملِه، فهي المعادلة الأزليّة للفعل وردِّ الفعل.
قبل أن يهجمَ على بغداد طُلّابُ السلطةِ الصغار بالنار والحديد وظلامات الكواليس، كانت بغداد تسهر حتّى الصباح، وقد شاعَ بين الناسِ فـيها ثالوثُ الكتاب فـي العالَمِ العربي، فكانت القِراءةُ حصّةَ بغداد من ذلك الثالوث العملاق، حيث القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، جاء هذا المفعَم بحيويّةِ الأفكار وجِدّةِ التعبير الرصين، والمتحدِّر من قرى «مرجعيّون» الذهبيّة، ليكسِرَ المعادَلة، حيث أصبحت بيروت هي الأخرى تكتب كما تطبع لتقرأ بغداد، فشاعَ فـيها مؤلَّفُهُ الرصين «الإمام علي صوتُ العدالةِ الإنسانيّة» بأجزائهِ الخمسة، ليشقَّ طريقَهُ – الكتاب – وسطَ زحامِ القُرّاء من مختلف المشارب والآراء والإنحدارات والإنتماءات، ومن ثمَّ ليتصدّرَ الرفَّ الذي يستدعيه متناولُ اليد فـي أيّةِ لحظة، من مكتبات القُرّاءِ العراقيّين، وقد اتّسعت دائرةُ الذين جذبتهم مضامينُ الأجزاء الخمسة فـي مشارق الأرض ومغاربِها فـي العالَم الإسلامي خصوصاً فـي إيران، حيث دفعَ المعجَبين بالمؤلَّف من الماسكين على سلطةِ القرار فـي قلبِ العاصمة طهران إلى إطلاقِ اسم صاحبِهِ على أحد الشوارع فـيها، من دون أن ينبري مسؤولو أيِّ بلدٍ كُتِبَ المؤلَّفُ بلغتِهِ، لاجتراحِ مثل هذه المأثُرة.
حتّى إذا مرَّ زمنٌ أعقَبَ ذلك، فاجأ نفسُ الشاعر المتحدّر من قرى مرجعيّون الذهبيّة، أذواقَ الملايين بقصيدتِهِ الرومانسيّة العذبة «هذه ليلتي» حيث جاءت منغَّمةً بألحان الرائد الموسيقيّ العربيّ الأسطورة «محمّد عبدالوهاب»، وبالصوتِ الشجيّ لسيّدة الغناء العربي كوكب الشرق «أمّ كلثوم»، لقد كنتُ شاهدَ عيان وسامعَ تلك الألحان من ساعةِ ولادتِها وهي تصدح فـي أجواءِ بغداد، تردّدها أشرطةُ الكاسيت الدائريّة التي كأنّما تتخدّر بدوارانِها من سطحِ جهاز تسجيل «كروندك» بخاصّة، كنتُ أقطعُ المسافةَ من باب المعظّم إلى الباب الشرقي مشياً على الأقدام فـي نزهةٍ أسبوعيّة، أغلبُ المحلّات كانت تتوافر فـيها أجهزةُ التسجيل الأليفة تلك، فـينبعث منها الصوت واللحن والكلمات فـي تناغمٍ منسجمٍ متداعٍ..«وديارٌ كانت قديماً ديارا..سترانا كما نراها قِفارا»..«سوف تلهو بنا الحياةُ وتسخَرْ..فتعالَ أحبُّكَ الآنَ أكثر»، تلك القصيدة التي طوّرَ فـيها أفكار عمر الخيّام ومنحها امتداداً شِعريّاً سيصعب على غيرِهِ أن يتكرّر قبل مضيِّ ربّما قرون تطول، كما كانت تنبعث من أجهزة التسجيل من داخل المقاهي والمطاعم إلى خارجِها، فكان شارع أبي نؤاس المحاذي لدجلة ذي الهواء العليل كأنّهُ صالةٌ هائلةٌ واحدة ذات سقفٍ سماويّ يضجّ انسجاماً مع تلك الكلمات والألحان، ولم يقتصر مرور القصيدة فـي تلاوين الأذواق على فئةٍ من الناس، إذ استحسنها وتعاطفَ معها طلّابُ الجامعات والتجّار والباعة المتجوّلون والمدرِّسون والمعلِّمون والمحامون والأطبّاء، ربّما رأيتُ أكثرَ الناسِ المتصدّرين انغماراً بها هم الشعراء، وذلك ليس بحاجةٍ إلى تفسيرٍ أو تعليلٍ، إنّها جزءٌ من عالمِهِم المشتمل على تفاصيلِها، شخصيّا أفصح لي أحد أصدقائي بأنّه كان يبحث عن القصيدةِ فـي آخِرِ الليل من محطّات الإذاعة الملتظمة للمسطرةِ الزجاجيّة التي تتوسّط جهاز المذياع «الراديو» ذات الأرقام المتداخلة سيّد إعلام تلك الأيام، فلا ينام إلّا على إيقاعاتِها.
من كلِّ ماتقدّم، أصل مع الشاعر العظيم جورج جرداق إلى نتيجةٍ تختصر عناءَ الصراع بين الثقافات المختلِفة، حيث بإمكانِها أن تتعايشَ كلّما كانت قريبةً من الحسِّ الإنسانيّ العام، وهو ما استطاع الوصول إلى مدياتِهِ الفسيحة الواسعة فـيما أنجزَه أديبُنا الراحل، بفرادةِ المبدع وغَور العارف فـي عمقِ المناطق المشترَكَة للإنسانيّة وهي التي لا تُعَدّ ولا تُحصى.
ولأجل أن أحيط القارئ علماً بما أنجزه شاعرنا وكاتبنا فـي القصيدة كنموذج شعري أعيد نشرها فـي الحقل المجاور، كما أثبّت فـي أدناه بعضاً من نصوصه التي وردت فـي مؤلفه الموسوم «الإمام علي صوت العدالة الإنسانية».
للإنسانية تاريخ طويل غريب واحد
أما ما يؤلف طوله فعمر الإنسان القديم تمتد به يد الدهر حتى تصله بأول أيام الأرض، ثم هذا التطور المتثاقل البطيء من مرحلة إلى مرحلة ومن حياة إلى حياة.
وأما ما يؤلف غرابته فأكثر من أن يُساق فـي مقدمة أو يبحث فـي كتاب. ولعل أبرز مظاهر هذه الغرابة ما نراه من فترات زمنية عاشتها هذه الجماعة أو تلك من البشر أو هذا الفرد أو ذاك، فـي قمة من قمم الصعود الإنساني بين منخفضات سحيقة رهيبة من الانحدار، حتى ليرتاب الناظر إلى هذه القمم تحاط بهاتيك المنحدرات، بأن للتاريخ نظاماً حسابياً قاصداً يسير عليه! وإلا فكيف يفسر ارتفاع الأغارقة فـي عصر من عصور هذا التاريخ واقعٍ بين أعصر شتى من المهاوي المتلاحقة فإذا هم يعبرون عن حقيقتهم خلال هذا الشموخ بعباقرة تصنع أيديهم صور الخير والجمال وتكشف عن وجه الحق وتضع عقولهم أصولاً وقواعد فـي الفن والعلم والأخلاق وما إليها من شؤون الفكر وشؤون الكيان الإنساني… وإذا بمدينتهم العظمى أثينا تعلو فـي الأرض…
وإذا كانت هذه هي قصة التاريخ: قصة التطور الشامل ضمن خطوط عامة كبرى فما هو دورنا نحن العرب فـي نسج حوادثه؟ وما هو عملنا خلال مراحله فـي خدمة الإنسانية أي فـي خدمة أنفسنا؟
لقد اسهمنا، بحكم وجودنا… بتاريخ الإنسانية بما فـيه من طول وغرابة ووحدة! ولعل إسهامنا فـي غرابته أظهر وجه فـي صفحات تاريخنا الخاص. هذه الغرابة التي يمثلها فـي طور من أطوار تاريخنا شموخ علي بن أبي طالب وشموخ أقران له، بين منحدرات… شموخ فـي الفكر والقلب خليق بناء أن ننظر إليه كما ننظر إلى كل قمة فـي تاريخ الإنسانية الواحد.
وثم نقرا من عنوان «مهد النبوة»:
أرض هي المعجزة بما كانت، وهي المعجزة بما ستكون! فلوات عظيمة الاتساع لو جادها (الغيث ومدها بالخضرة والنضرة والرواء لأطعمت جياع الدنيا وكست عراة العالمين. وفـيها من الامتداد ما لا يحده خيال ولا يضبطه تصور. ولكنها بواد ما تزال فـي أول تكوينها من رمال متعرجة ملتوية تموجت أو تصلبت أو لعبت بها زعازع الريح فهي أرض… من حب الرمال…
أما أنهارها فلا نهر واحداً فـيها دائم الجريان. ولكن سيول غزار تجري حين تفـيض الأمطار فـي بعض الأقاليم… فإذا بالقوم يحتالون على بعضها بسدود تحبس المياه ولو إلى حين. وتحمل طبيعة الصحراء قاطنيها على الغزو فالاقتتال، فالنزاع الدائم هو نظامهم الاجتماعي فـي الأصل!
وعلى صحارى الجزيرة وداراتها يخيم الضجر القاتل والسأم المر. فمشاهدها واحدة لا تتبدل فـي انبساط من محيط الرمال على قلة الواحات… وليس من شأن هذه الطبيعة القاسية، وهذا العيش الرتيب، وهذا الوجود الصعب أن تخلق من أهل الصحراء شعوراً بسعة الكون وشمول الحياة وامتداد قيم الخير مما يلين النفس ويملأ القلب. فمثل هذه الأحاسيس تنبت فـي الواحات الخضر… ولدى الناعمين بالعيش لا فـي قلوب ا لناعسين.
شظف من العيش فـي جحيم من الرمال، فـي سأم من الحال، فـي يأس من الغد ماحق! هذه هي جزيرة العرب!
وجود هذا الإنسان فـي هذه الأرض لا يبغي عليها بديلاً ولا يرضى بغيرها موطناً، وقد حاصرته جباله وبحاره وآفاقه وصحاريه، هو المعجزة التي كانت: معجزة الصحراء قبل ثورة محمد وثورة علي!
معجزة الصحراء بعد محمد وعلي، صاحبي الثورات الاجتماعية الخيرة على بؤس ذلك المحيط وذياك الزمان!.
وكذلك نقرأ ضمن عنوان «النبي وعلي بن أبي طالب» هذا النص لعمر بن الخطاب: «كنا ننظر إلى علي فـي ايام النبي كما ننظر إلى النجم» وبعد ذلك نطلّع على هذه الكلمات:
وفـي البيت الطالبي الواحد تنمو الروح الواحدة بالصدق والصفاء ووحدة النظر إلى الكون والحياة. و تستمر على أصول أعمق وفروع أكثر فـي علاقة النبي مع ربيبه الطفل، ثم الصبي، ثم الشاب، ابن عمه العظيم علي بن أبي طالب!.
ومما نقرأ تحت عنوان «الإمام علي وحقوق الإنسان» ضمن العنوان الفرعي «التجربة القاسية»:
للإمام علي بن أبي طالب فـي حقوق الإنسان وغاية المجتمع أصول وآراء تمتد لها فـي الأرض جذور وتعلو لها فروع. أما العلوم الاجتماعية الحديثة فما كانت إلا لتؤيد معظم هذه الآراء وهذه الأصول…
نضجت فـي ذهن الإمام القوي، فكرة العدالة الاجتماعية… التي لا بدّ لها أن تنتهي بإزالة الفروق الهائلة بين الطبقات التي يتخم ثريها وأميرها ويضوي فقيرها وصغيرها فكان صوته فـي معركة العدالة الاجتماعية هذه مدوياً أبداً… ودفاعه عن قيم الإنسان عظيماً أبداً، شديداً لا هوادة فـيه ولا لين. كان فـي حكومته المثل الأعلى للحاكم الواعي لحقوق الإنسان فـي تلك الحقبة من تاريخ البشر…
Leave a Reply