بقلم: كمال العبدلي
ربيع العام 1977 صدرَ الأمرُ الإداري لإيفادِنا بصفتي رئيساً لقسمِ المقالِع في المؤسّسة العامّة للمعادِن ببغداد، إلى مقالعِ «الطيب وجلات» الواقعة بأقصى شرق «ميسان»، كان الطريقُ صحراويّاً باتّجاهِ الحدودِ الإيرانيّة، ويمتدّ لأكثرَ من تسعين كيلومتراً من مركز مدينة «العمارة»، مررنا على حقول نفطِ «البزركان»، ذلك الفضاء الذي يشبه السديم، وبسبب طولِ الطريق وخلوِّهِ من أيِّ مَعْلَمٍ من معالِمِ المدن، استضافنا مدير شركة «إيراب» الفرنسيّة العاملة هناك، لتناول طعام الغداء، كان مطعمُ الشركة يمتدُّ في داخل بهوٍ يقبعُ وسط الصحراء يوحي بكلّ ما يحوي مطعم «الشانزليزيه» الباريسي من مظاهر الأُبّهَة والترَف والإنارة والتأثيث وتشكيلات الأطعِمة، حتّى إذا وصلنا إلى موقع معامل غسل وغربلة الحصى والرمل في «الطيب»، وجدنا بانتظارِنا جمهرة من المواطنين، يرتدي أغلبُهُم الصاية والعباءة ويعتمرون الكوفيّةَ والعِقال، كانت المناسبة هي افتتاح مشروع تلك المعامل ومباشرتِها بالإنتاج، رحّبوا بقدومِنا وسطَ هديرٍ من الهوسات والأهازيج الشعبيّة المدوِّية، أتذكّرُ أنّ فلسطين السليبة كانت حاضرةً بقوّة في متون تلك الهوسات والأهازيج، حيث لا يخلو ترديدُ إسمِها المقترِن بمأساتِها، في أيِّ محفلٍ عام، كمُعادِلٍ لاستحضارِ الكرامة التي يجب أن تتعافى من الثَلِم، والكرامةُ على الدوام تُصاحبُ الخبزَ جنباً إلى جنب في مسيرةِ حياةِ الإنسان.
في ربيعِ العام 1979 إستعدْتُ هذا المشهد خلالَ سفرةٍ سياحيّةٍ فرديّة، وأنا في داخلِ باص متأهِّب للإنطلاقِ بنا من مرآبٍ عام وسط مدينة الرباط عاصمة المغرب إلى مدينة الدارِ البيضاء، حيث صعدَ أحدُ المواطنين المغاربة وهو يرتدي الجبّةَ المغربيّة التي يتدلّى من خلفِها غطاءُ الرأس أعلى الظَهر ويعتمرُ الطربوش، صعدَ إلى داخلِ الباص طالِباً المساعَدَةَ من الركّاب واقفاً في المقدّمة كخطيبٍ يواجهُ مستمِعيه، وكان يردّد اسمَ فلسطين ضمنَ دُعائهِ بتحريرِ «الصحرا وسينا»، فإذا كان هذا المواطن المغربيّ المُقيم في أقصى المغربِ العربيّ – بغضِّ النظر عن موقِعِه الطبقيّ ولياقتِهِ البدنيّة – منغمِراً بحرارةِ ذلك الحماس من الإحساسِ بالكرامة الجماعيّة العربيّة، يمثّلُ الطبقات الشعبيّة العريضة من المجتمعِ العربيّ، ويتشابه في الإحساس المشترَك مع أولئك المواطنين المُقيمين في أقصى المشرِقِ العربيّ، فذلك يعني أنّ جميعَ الذين يملأون الإمتدادَ الأرضِيّ ما بينهما يتقاسمون معهما هذا الإحساسَ المشتَرَك، المتجذِّر في ضميرهم ووجدانهِم الجمعيَّيْن، الإحساس المتراكم عبر مئات القرون من الحضارةِ المشترَكة والعادات والتقاليد والقِيمِ التوائم.
وإذا كان هذا هو حالُ الملايين من الشرائح الشعبيّة للناطقين بالضاد، فكيف بحالِ النُخبة منهم؟ الذين فرّغوا حياتَهم النبيلة من أجلِ خدمة قضيّتِهم العادلة، كان الشاعر سميح القاسم واحداً من أولئك النخبة الأفذاذ، الذي فجعَنا نبأُ رحيله،سميح القاسم أحد أهم وأشهر الشعراء العرب والفلسطينيين المعاصرين الذين ارتبط إسمهم بشعر الثورة والمقاومة من داخل أراضي العام 48، مؤسس صحيفة كل العرب ورئيس تحريرها الفخري، ولد لعائلة درزية في مدينة الزرقاء يوم 11 أيار (مايو) 1939، وتعلّم في مدارس الرامة والناصرة. وعلّم في إحدى المدارس، ثم انصرف بعدها إلى نشاطه السياسي ومن ثمّ ليتفرغ لعمله الأدبي، سُجِن سميح القاسم أكثر من مرة كما وُضِعَ رهن الإقامة الجبرية والاعتقال المنـزلي وطُرِدَ مِن عمله مرَّات عدّة بسبب نشاطه الشِّعري والسياسي وواجَهَ أكثر مِن تهديد بالقتل، في الوطن وخارجه، اشتغل مُعلماً وعاملاً في خليج حيفا وصحفياً وهو شاعر مُكثر تناول في شعره الكفاح والمعاناة الفلسطينيين، وما أن بلغ الثلاثين حتى كان قد نشر ست مجموعات شعرية حازت على شهرة واسعة في العالم العربي، كما كتب أيضاً عدداً من الروايات، ومن بين اهتماماته إنشاء مسرح فلسطيني يحمل رسالة فنية وثقافية عالية كما يحمل في الوقت نفسه رسالة سياسية قادرة على التأثير في الرأي العام العالمي فيما يتعلّق بالقضية الفلسطينية، وأسهَمَ في تحرير «الغد» و«الاتحاد» ثم رَئِسَ تحرير جريدة «هذا العالم» عام 1966. ثُمَّ عادَ للعمل مُحرراً أدبياً في «الاتحاد» وأمين عام تحرير «الجديد» ثمَّ رئيس تحريرها. وأسَّسَ منشورات «عربسك» في حيفا، مع الكاتب عصام خوري سنة 1973، وأدارَ فيما بعد «المؤسسة الشعبية للفنون» في حيفا. كما قد رَئِسَ اتحاد الكتاب العرب والاتحاد العام للكتاب العرب الفلسطينيين في فلسطين منذ تأسيسهما. ورئس تحرير الفصلية الثقافية «إضاءات» التي أصدرها بالتعاون مع الكاتب الدكتور نبيه القاسم. بعد ذلك رئيس التحرير الفخري لصحيفة «كل العرب» الصادرة في الناصرة. توزّعت أعمال سميح القاسم ما بينَ الشعر والنثر والمسرحية والرواية والبحث والترجمة بأكثرَ من سبعين إصداراً، وقد كتبت عن شِعره وأدبِه دراسات عديدة، أنقل هنا أهمّ ما أصدرَ من دواوين الشِعر:
1. مواكب الشمس -قصائد- (مطبعة الحكيم، الناصرة، 1958م) 2. أغاني الدروب -قصائد- (مطبعة الحكيم، الناصرة، 1964م). 3. دمي على كفِّي -قصائد- (مطبعة الحكيم، الناصرة، 1967م). ٤. دخان البراكين -قصائد- (شركة المكتبة الشعبية، الناصرة، 1968م). ٥. سقوط الأقنعة -قصائد- (منشورات دار الآداب، بيروت، 1969م). ٦. ويكون أن يأتي طائر الرعد -قصائد- (دار الجليل للطباعة والنشر، عكا، 1969م). ٧. قرآن الموت والياسمين -قصائد- (مكتبة المحتسب، القدس، 1971م). ٨. الموت الكبير -قصائد- (دار الآداب، بيروت، 1972م). ٩. وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم! -قصائد- (منشورات صلاح الدين، القدس، 1976م) ١٠. أحبك كما يشتهي الموت -قصائد- (منشورات أبو رحمون، عكا، 1980م). ١١. الجانب المعتم من التفاحة، الجانب المضيء من القلب -قصائد- (دار الفارابي، بيروت، 1981م). ١٢. جهات الروح -قصائد- (منشورات عربسك، حيفا، 1983م). ١٣. قرابين -قصائد- (مركز لندن للطباعة والنشر، لندن، 1983م). ١٤. لا أستأذن أحداً -قصائد- (رياض الريس للكتب والنشر، لندن، 1988م). ١٥. سبحة للسجلات -قصائد- (دار الأسوار، عكا، 1989م). ١٦. أرضٌ مراوغةٌ. حريرٌ كاسدٌ. لا بأس! -قصائد- (منشورات إبداع، الناصرة، 1995م). ١٧. سأخرج من صورتي ذات يوم -قصائد- (مؤسسة الأسوار، عكا، 2000م). ١٨. الممثل وقصائد أُخرى (منشورات الأسوار، عكا، 2000م). ١٩. بغداد وقصائد أُخرى -قصائد- (منشورات إضاءات، مطبعة الحكيم، الناصرة، 2008م). ٢٠. بلا بنفسج (كلمات في حضرة غياب محمود درويش) – (منشورات الهدى، مطبعة الحكيم، الناصرة، 2008م). ٢١. مكالمة شخصية جداً (مع محمود درويش)-شعر ونثر- (منشورات إضاءات، مطبعة الحكيم، الناصرة، 2009م). ٢٢. كولاج 2 -شعر- (منشورات إضاءات، مطبعة الحكيم، الناصرة، 2009م). ٢٣. كتاب القدس -شعر- (إصدار بيت الشعر، رام الله، 2009م). ٢٤. منتصب القامة أمشي -مختارات شعرية- (منشورات الأسوار، عكا، 2012م). ٢٥. كولاج 3 -شعر- (منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت) ومنشورات كل شيء (حيفا)، 2012م).
وبعدُ ياصوتَ الكرامة الذي أطلقته في حياتك النبيلة، إذا كان قلبُكَ قد توقّفَ عن النبض، فإنّ صوتكَ لن يتوقّفَ عن الهدير، مادامت الكرامةُ صوتاً يحيا في الضمائر.
Leave a Reply